حاولت أن أتنبأ بنتيجة لجنة تحكيم مهرجان (مالمو)، ارتديت نظارة المخرج المتمرد المشاغب خيرى بشارة، رئيس لجنة التحكيم، ووجدت أنه رغم شراسة المنافسة بين العديد من الأفلام التي يملك أغلبها سحرا خاصا وجدارة بالجائزة، قسط وافر منها جاء للمهرجان مرصعا بالجوائز التي تم تتويجه بها من أعرق المهرجانات العالمية، إلا أن (كذب أبيض) له مكانة خاصة، فهو يتوافق مع (جينات) بشارة الإبداعية، ولهذا شعرت أنه سيحظى بتلك المكانة.
سيظل هذا الفيلم، لكل من أتيحت له مشاهدته، يشكل حالة من السعادة والاشتياق، ستكتشف، بعد قراءة (تتر) النهاية، أنك تبحث عن وسيلة أخرى لكى تسارع بمشاهدته مجددا، فهو ينتقل من عينك لكى يسكن قلبك.
حكايات الكذب الأبيض كلنا عشناها، حلّقنا ونحن أطفال مع خيالنا بأجنحة ترنو للسماء، نسرد حكاية تخترق كل تخوم المستحيل، نرويها بكل صدق، كأننا بالفعل عشناها بكل صدق.
عدد كبير من الجوائز نالها فيلم (كذب أبيض)، وكنت شاهد عيان عليها، أول قطفة للجوائز، عندما عرض في شهر مايو الماضى بمهرجان (كان)، قسم (نظرة ما)، وحصدت المخرجة جائزة أفضل إخراج، وتعددت بعدها الجوائز التي نالها، لا أزال أترقب المزيد، بعد (مالمو).
الفيلم بتوقيع المخرجة أسماء المدير، التي كتبت أيضا السيناريو، وأضافت لمساتها على المونتاج الذي أراه أحد أهم الأبطال. على ملامح الشريط الذي شارك فيه عدد من أفراد عائلة المخرجة يمثلون الأجيال الثلاثة: الجدة والأب والحفيدة، منهم زهراء الجداوى ومحمد المدير وعبدالله عز، وقامت أسماء في هذا الفيلم الوثائقى بدور المحاورة والمحققة، فهى تبحث عن الحقيقة، وما حدث بالضبط قبل 43 عاما، فيما عرف بالمملكة المغربية بانتفاضة الخبز.
فيلم (كذب أبيض) به دماء عربية متعددة، من خلال مساهمات إنتاجية أيضا من مصر والمملكة العربية السعودية وقطر، وقسط وافر واستثنائى من مبدعين من المغرب الشقيق، التصوير حاتم ناشى والموسيقى ناس الغيوان. إنه الفيلم الذي ما إن ينتهى عرضه على الشاشة، إلا وتكتشف أنك تعيد عرضه لا شعوريا في وجدانك، وقد تضيف أو تحذف، إلا أنه يبقى بداخلك وكأنه بالضبط ما شاهدته. الشريط لا يتوقف فقط أمام لحظة تاريخية في المملكة المغربية، تلك الأحداث المصيرية، في زمن ولاية الملك العاشق للفن، والموسيقى تحديدا الحسن الثانى، والد الملك محمد السادس، تلك هي الخلفية السياسية المباشرة، إلا أن الشريط السينمائى يبحث عما هو أبعد من كل ذلك، عن طريق الحوار الذي أجرته الحفيدة (المخرجة أسماء المدير)، مع الجدة، الحفيدة تسعى لتوثيق الحقيقة، ونتوقف أمام الحكاية وكيف نرويها، ويدخل الزمن كطرف فاعل في كل التفاصيل، الحفيدة تبحث عن صورة من طفولتها وسط بقايا صور جدتها، التي يضمها (الألبوم)، المتخم بالصور، التي ترك الزمن بصماته عليها، ومن خلال تلك الوثائق المتناثرة، نعيش الزمن، الذي لا يروى الحقيقة المباشرة، فأنت موقن أن ذاكرة الجدة من الصعب أن تظل تحمل كل تلك التفاصيل، ولكن حتى الخيال من الممكن أن يصبح وسيلة لكى ندرك من خلال تتابعه حقيقة الحقيقة.
الفيلم التسجيلى يتكئ على حكايات تختلط من أجل أن تتسق، تروى تفاصيل الكثير عن تلك الحقبة، الجدة لم تعترف بأن حفيدتها مخرجة سينمائية، فهى ترى أن السينما مثل (الكباريه)، لا ترضى لحفيدتها الذهاب إليه، لكنها تعتبرها صحفية، تحظى باحترام أدبى، يرضاه المجتمع، فهى تعبر عن منطق عاشته ولاتزال بقاياه حاضرة في الذاكرة، التي لا تستطيع أن تضع خطا فاصلا بين الواقع الذي عاشته والخيال الذي تعايشت معه.
الجدة، الملكة المتوجة في هذا المنزل، هكذا يراها الجميع، فهى عمود البيت الذي يضم الأجيال الثلاثة، وتستعيد الحكاية من خلال بناء ديكور للزمن بكل تفاصيله، وتظل صورة الملك الحسن الثانى تزين المكان، وهى في القلب عند الجدة، بينما تنتقد الحفيدة ما حدث وأدى لتلك الانتفاضة التي اندلعت بسبب رغيف الخبز، لكن لماذا وصفها بالكذب الأبيض؟ لأنه لا يضر، بل أحيانا مباح، وفى ظل ظروف محددة، ضرورى وحتمى، وكلنا نلجأ إليه مع اختلاف الدرجة وتباين الظروف.
هل الجدة وهى تروى الأحداث تكذب عامدة متعمدة، أم أن الصحيح أنها تروى ما تعتقد أنه حدث بالفعل؟.
المخرجة تنتقل بين تسجيل الحدث إلى اللعب بالعرائس، التي تشبه الدمى الروسية، تفتح عروسة لتخرج منها واحدة أصغر، وهكذا، وقد نرى العكس أيضا العروسة الصغيرة تتلبسها عروسة أكبر.
الديكور الذي تقدمه لشقة الجدة، في مجسم صغير المساحة، ثم تقدم لنا ديكور الشارع في (كازابلانكا)، حيث تجرى الأحداث أشبه بلعب الأطفال يعيدنا مجددًا لزمن البراءة، قد تراه في لحظة لعب أطفال، وهو كذلك، فأنت ستكتشف أن الطفل بداخلك قد استيقظ مجددا الجدة، الملكة المتوجة، ولها كلمة نافذة على
الجميع، كأنها سبيكة نادرة عناصرها الأساسية، ذكاء وخفة ظل وكاريزما زادها الزمن حضورا ووهجا، إلا أنها أيضا متسلطة في قراراتها، تعتقد فقط أنها تملك كل الصواب.
لا توجد ذاكرة فوتوغرافية، وحتى لو وجدت ستكتشف أن اختيارك للزاوية التي تطل منها على الحدث، هي التي تفرق بين إنسان وآخر عاشا نفس اللحظة، وقد يتناقضان في الرؤية 180 درجة.
الفيلم يقدم مخرجة تتعامل مع الشريط السينمائى بروح الطفل الذي تحركه فطرته، وهكذا حرصت أسماء المدير، في أسلوبها العفوى وهى تروى لنا الحدث، على أن يعلو حضور الطفل بداخلها، تمتلك كل أدوات التعبير من حركة الكاميرا والإضاءة والموسيقى.
ما أجمل أن يستيقظ بعد نهاية عرض الفيلم، بداخلك، عالم الطفولة، وأروع ما فيه هو (الكذب الأبيض)!.
ماذا لو كان لدى كاتب هذه السطور الحق في اختيار الفيلم الجدير بالأفضل؟.. يقينا رغم شراسة المنافسة سأمنح صوتى لـ(كذب أبيض)!!.