لم نقترب كثيرا، ولكننى كنت أشعر دائما بأن هناك أشياء كثيرة اجتمعنا على حبها.. كنت أرى فيه نموذجا للتحدى والإصرار، وكنت أشعر بأنه أقام لنفسه صرحا من الاعتزاز بالذات والحرص على الكرامة، وكنت أقدّر فيه رحلة كفاحه وتميّزه وتفرّده حتى عانق القمّة.. كنت أراه حالماً رغم أنه سافر فى واقع الحياة والأشياء والبشر..
ــــ كنا نجتمع فى صحبة صديقين: أسامة الباز شقيقه الأكبر، وإبراهيم كامل. جمعتنا حوارات كثيرة، خاصة أننى كنت ومازلت أحمل تقديرا عميقا لشقيقه أسامة الباز، وكان من أعز أصدقائى.. تابعت مشوار فاروق الباز، وكنت أشعر بأنه عالم فى منتهى الذكاء، اختار هدفه وحدد مساره، رغم كل التحديات التى واجهها فى مشوار حياته..
ـــ كثيرا ما تحدّث عن مشواره طفلاً مع تسعة إخوة وأبٍ مثقفٍ وعالمٍ أزهريٍّ رفيع، وأمٍّ احتضنت أحلامه ورعت طموحه، وتنقّل الأب مدرسا فى المعاهد الأزهرية بين المنصورة ودمياط والقاهرة.. كثيرا ما تحدّث فاروق الباز عن والده، ويعترف بأنه عاش طفولة سعيدة فى كل الأماكن التى تنقلت الأسرة فيها، خاصة مدينة دمياط الساحرة... يعترف فاروق بأن والده كان مصدر ثقافته الأول، وأنه ترك له ولأشقائه تراثاً من المعرفة فى الدين والتاريخ وحرية الفكر، وكان الأب يتحاور مع الأبناء التسعة فى كل القضايا، وكان حريصا على تعليم البنات مثل الأولاد تماما.
يقول فاروق: «ورثت عن أبى التدين الصادق، والتاريخ، والصفحات المضيئة فيه، ورموز مصر فى كل العصور والأزمنة»..تشكّل صديقنا ودخل مراحل التعليم ما بين الإعدادى والثانوى حتى وصل إلى أعتاب جامعة مصر العريقة، طالباً فى كلية العلوم.. لم يساعده المجموع فى دخول كلية الطب، وقد راودته يوما، واستقرّ به الحال فى قسم الجيولوجيا بالكلية..
ــــ هكذا حملت الرياح فاروق الباز، وحصل على درجة الدكتوراة فى علمٍ من أهم علوم الأرض وهو الجيولوجيا، ويبدو إن التخصص والدكتوراة لم يكونا فى حسابات أصحاب القرار فى ذلك الوقت، فالقُوِّه فى مدينة السويس وهو لا يدرى عمله أو وظيفته، واحتار بين مكاتب المسئولين فى وزارات التربية والتعليم، ولم يجد صديً لصرخاته حتى وصل إلى مكتب الرئيس جمال عبد الناصر.. ضاقت الأرض بأحلام فاروق الباز بعد أن زادت الفجوة بين إنسانٍ أدرك الحقيقة وعالم ما زال غارقاً فى عقولٍ لم تُفتح أمامها أبواب المعرفة والوعى.. بدأ الرجل يستعدّ للرحيل، تاركا الأحلام والأماكن والبشر، باحثاً عن عالمٍ يحقق له شيئاً من أحلامه..
ــــ حمل الشاب المصرى فاروق الباز حقيبته الصغيرة وغادر القاهرة متجهًا إلى الولايات المتحدة، لا يملك سوى حلمٍ بأن يصبح عالمًا فى علوم الأرض..يقول الباز فى مذكراته: «لم يكن فى مصر وقتها مجال للبحث العلمى الحقيقى، فقررت أن أبحث عن العلم حيث يوجد». التحق بجامعة «ميزورى» للدراسة، وحصل على الماجستير ثم الدكتوراة فى الجيولوجيا.. كان يعيش فى شقة متواضعة ويعمل ليلاً كى يغطى مصاريف الدراسة، لكنه كان يرى أن كل تعبٍ هو خطوة نحو حلمٍ أكبر .. وكان يتلقى مجلات علمية ليتابع آخر الأبحاث ولفت نظره إعلان صغير يقول:«نحتاج إلى جيولوجيين للعمل على دراسة القمر»، يتذكر الباز تلك اللحظة قائلاً:«قلت لنفسي: هذه فرصتى، القمر نفسه يطلب من يدرسه!».
تقدّم إلى الوظيفة فى شركة كانت تعمل مع وكالة «ناسا»، ضمن برنامج أبولو، فتم قبوله ليكون واحدًا من العلماء الذين سيشاركون فى اختيار مواقع هبوط الإنسان على سطح القمر..
وكان التحدى الأكبر أن تكون مصريًا فى «ناسا» فحين بدأ عمله فى مقر الشركة بواشنطن ،كان الفريق كله من الأمريكيين، وهو الوحيد القادم من العالم العربى..
ــــ كان محظورًا عليه التحدث إلى رواد الفضاء أو الإعلام فى البداية، فكرّس وقته للعمل.. جلس فى قاعة مليئة بصور التقطتها المركبات القمرية، يزيد عددها على ألفى صورة مغطاة بالغبار.. يصف تلك التجربة قائلاً:«قضيت أيامًا طويلة أنظف الصور وأرتبها، حتى وضعت خريطة كاملة للقمر، ومن هنا بدأنا نحدد الأماكن التى يمكن أن يهبط فيها الإنسان بأمان».
حين هبطت المركبة «أبولو 11» على سطح القمر كان الباز فى غرفة العمليات يراقب المؤشرات.. وقال:«كنا نتابع بشغف.. عندما تأكدنا أن المركبة هبطت بنجاح، تنفسنا الصعداء جميعًا» تلك اللحظة كانت نقطة التحول فى حياته، إذ أصبح اسمه معروفًا داخل «ناسا»، وأطلق عليه زملاؤه لقب «العالم الذى يقرأ الصحراء من الفضاء».. ومن القمر إلى الأرض بعد انتهاء برنامج أبولو، أنشأ مركزًا للاستشعار عن بعد.. يقول: «تعلمنا من صور القمر كيف نرى الأرض بعيون جديدة.. أدركت أن ما نستخدمه فى الفضاء يمكن أن يساعدنا فى حل مشكلات الأرض، خاصة فى فهم الصحراء».
ــــ ألف د. الباز العديد من الكتب، أبرزها «أبوللو فوق القمر»، «الصحراء والأراضى الجافة»، «حرب الخليج والبيئة»، «أطلس لصور الأقمار الصناعية للكويت»، وكتب عشرات المقالات العلمية وحصل د. فاروق الباز على العديد من الجوائز الدولية، منها:
جائزة إنجاز أبولو من وكالة ناسا.. وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس أنور السادات.. جائزة الباب الذهبى من المعهد الدولى فى بوسطن.. كما أنشأت الجمعية الجيولوجية الأمريكية جائزة سنوية باسمه بعنوان «جائزة فاروق الباز لأبحاث الصحراء».جال د.فاروق العالم شرقًا وغربًا، وحاضر فى أهم الجامعات والمراكز البحثية، وظل منذ طفولته مولعًا بالرحلات الكشفية وجمع العينات الصخرية..
ـــ لم ينسَ الباز وطنه، بل استخدم خبرته فى الفضاء، لدعم مشروعات التنمية فى الصحراء المصرية وقال: «الفضاء ليس بعيدًا عن الأرض، هو وسيلتنا لنفهمها أكثر.. مصر غنية بثروات فى باطن صحرائها، والمياه الجوفية هناك كنز ينتظر من يكتشفه».«حين كنت أدرس صور القمر، أدركت أن تقنيات الفضاء يمكن أن تساعدنا فى فهم أرضنا أيضًا، وأننا نستطيع استخدام صور الأقمار الصناعية للبحث عن المياه والطرق والمناطق الصالحة للزراعة».وهكذا وُلدت الفكرة التى سماها فيما بعد «ممر التنمية»، وهى رؤية علمية ضخمة لإنشاء محور عمران وزراعة وصناعة موازٍ لوادى النيل.. اعتمد الباز على تحليل صور الأقمار الصناعية والرادار، التى كشفت عن أنهار قديمة وجداول مائية مدفونة تحت رمال الصحراء الغربية.. أسهمت دراساته فى تحديد مناطق واعدة للزراعة مثل توشكى، وشرق العوينات، والواحات البحرية، وأثبتت أن التنمية هناك ممكنة إذا وُضع لها تخطيط علمى.. تهدف هذه الموسوعة إلى أن تكون مرجعًا وطنيًا للتخطيط المستقبلى لأى مشروع زراعى أو عمرانى فى الصحراء المصرية. رغم أن مشروع «ممر التنمية» لم يُنفذ كاملًا بعد، فقد أصبحت فكرته ملهمة لجيلٍ جديد من الباحثين والمهندسين المصريين فى مجالات الزراعة والطاقة النظيفة. وكان يقول «الصحراء ليست عائقًا، بل فرصة». ولم يكشف لنا فاروق الباز لماذا اختار الصخور والأعماق، ليرى قدرة الخالق فى الأعماق والألوان والطبقات..
ـــ كانت رحلة فاروق الباز فى هذا الوقت فيها الكثير من المغامرة، خرج فاروق الباز من بلده يحمل ورقة بيضاء، تفيد بأنه يحمل درجة الدكتوراة فى الجيولوجيا.. كانت شركات البترول والتنقيب تبحث عن علماء يشاركون فى تاريخ جديد يُسمّى عالم النفط، وكان من الممكن أن ينضم إلى هذا الفريق، وكان من الممكن أن يأخذ طريقه إلى دول الخليج، مصدر الغنى والثروة، ولكن ذكاء فاروق الباز جنح به إلى عالم آخر، وترك الأرض لأصحابها واتجه إلى السماء باحثا ومسافرا بين الكواكب والأجرام .. وفى ساحة منظومة الفضاء وجد فاروق طريقه ليصبح واحدا من شركاء هذا الإنجاز التاريخى، وتغيّر مسار عالمنا الكبير، وأصبح يحمل لقبا جديدا: عالم فى الفضاء.
..ويبقى الشعر
لِمَ لا تكونى آخرَ الأفراحِ فى عمري
وآخَر ما تبقى من أغاريدِ الأملْ
لِمَ لا تكونى أعذبَ الأبياتِ فى شعري
وأجملَ ما شدوتُ من الغزلْ..
لِمَ لا تكونى ذلك العشَ الصغيَر يضمنا
وأعودُ أشدو فى ربوعِكِ
دونَ خوفٍ أو قيودٍ أو ملل
لِمَ لا تكونى فى خريفِ العمر آخرَ زهرةٍ
تحنو على وأستعيدُ بعطرها عمرا رحل
لِمَ لا تكونى بسمةَ الطفلِ الذي
سجنوه قهرا إن تمردَ أو تجاسرَ أو سألْ
لِمَ لا تكونى آخرَ الألحانِ.. آخَر نشوةٍ
تُحيى مواتي
ربما امتدتْ بنا الأيامُ أو طالْ الأجلْ
لِمَ لا تكونى..
آه لو عادَ الزمانُ
وجئتُ بابكِ هارباً
وعواصفُ الأيامِ ترصدني
وشيءُُ فى الضلوعِ يهزني
كحريقِ بركانٍ إذا خمدَ اشتعلْ
◙ ◙ ◙
فى آخرِ المشوارِ جئتِ
وكل شيء ِِفى رحيقِ العمرِ
ولى واندثرْ
حتى العصافيرُ الجميلةً هاجرتْ
وتزاحمتْ حولى حشود الخوفِ
تلقينى بقايا بين أطلال العُمرْ
حتى الشجرْ
ما عادت الأغصان زاهية
ولا عاد الثمرْ
حتى المطرْ
أضحى دموعًا فى عيونِ الناسِ
خوفاً أو ضياعا أو ضجرْ
حتى القدرْ
ما عدتُ أعرفُ أين يحملنا
وكم عبرتْ على وجهى عذاباتُ البشرْ
هذا حبيٌب قد هجرْ
هذا رفيقُُ غابَ عن عينى
وفرقنا السفرْ
هذا زمانٌ جاحدٌ
سرق السنين الخضَر من عمرى
وفى سأمٍ غدرْ
----------------------------
من قصيدة « هذا زمان لم يعد كزمانى » سنة 2023