توقيت القاهرة المحلي 08:24:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

  مصر اليوم -

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

بقلم:تركي الدخيل

وَإِنَّمَا المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ

فَكُنْ حَدِيثاً حَسَناً لِمَنْ وَعَى

هذَا بيتٌ من أبيَاتِ قَصِيدةِ ابنِ دُريدٍ المشهورةِ، التي تضمّ 253 بيتاً، وتُسمَّى القَصِيدةَ «المقصورَة»، لأنَّ رَوِيَّها ألفٌ لَيِّنَةٌ (ألف مقصورة).

وَمَع أنَّ غَرَضَ القَصِيدَةِ الرَّئيسَ كَانَ المَدحَ، إلَّا أنَّ الشَّاعِرَ اغْتَنمَ كُلَّ فُرْصَةٍ واتَتْهُ، ليَبُثَّ الحِكْمةَ في ثَنَايَا مقصُورتِه.

«المَرْءُ»: الإنسَانُ. والمَرْءُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وامْرُؤٌ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، لَفظَةٌ مُشتَقَّةٌ من المُروءَةِ، كَمَا أنَّ لفظةَ الإنسَانِ مشتقةٌ مِن الإنسَانِية، والإنسانيةُ مصدرٌ صناعيٌّ، ومِنَ النَّاحِيةِ المَنْطِقِيَّة لا الاشتقاقيةِ فَإنَّ الإنسَانِيَّةَ هيَ المُشتَقَّةُ من الإنْسَانِ. والمُروءةُ كَمَالُ الرُّجولة، وليسَ للمَرءِ جَمْعٌ من لفظِه.

«حَدِيثٌ بَعْدَهُ»: أيْ بعدَ المَرءِ. والحَدِيثُ هوَ الكَلَامُ، وعَبرَه يَتَواصَلُ النَّاسُ بينَهمْ، ويتبادلُونَ الآرَاءَ، والتَّعليلَ، والأخبارَ.

«بعدَه»: بعدَ رحيلِه عَنِ الدُّنيَا بالمَوتِ.

والمَعنَى: أنَّ الإنْسَانَ يكونُ، بعدَ وفاتِه، مَوضُوعاً لِحَديثِ الأحيَاءِ، فَيَذكرُونَ ما كَانتْ عليهِ سِيرتُه، فإنْ كَانتْ سيرةَ خيرٍ، كانَ حديثُهم عنه حسناً، وإنْ كانتْ سيرةَ شرٍّ، كانَ حديثُهم عنه حديثَ ذمٍّ وقَدْحٍ.

«فكُنْ حديثاً حَسَناً»: اجعلْ مِنْ نفسِكَ بِأفعالِكَ الطَّيبةِ، خَبَراً حَسناً، بعدَ مُغَادَرَتِكَ الدُّنيَا.

و«حَسَناً»: من الحُسْنُ: وهو ضدُّ القُبْح وَنَقِيضُهُ. الأَزهري: الحُسْنُ نَعْت لِمَا حَسُن.

«لِمَنْ وَعَى»: أيْ لِمنَ حَفظَ وفَهِمَ وقَبِلَ.

الوَعْيُ: حِفْظُ القَلبِ الشَّيءَ. وعَى الشَّيْءَ وَالْحَدِيثَ يَعِيه وَعْياً وأَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فَهُوَ واعٍ. «لسان العرب».

والوعيُ حَدَثٌ عقلانيٌّ، يُعْلِنُ بهِ المَرءُ عنْ وجودِ الأشْيَاءِ، إنَّه دليلٌ علَى حُضورِها في الكَونِ، وحضورنا. لأنّ ما لا نَعِيه، يظلّ حبيسَ ظُلمةٍ دائمةٍ، خارجَ أذهانِنَا، أيْ خارجَ الدنيا.

والمعنَى: ليس الإنسانُ إلَّا خبراً يُنقلُ، وحديثاً يُؤثَر، وقصةً تُذكَر، وسيرةً تُنشرُ، وحكاية تُروَى، ورواية تُحكَى، فاجتهِدْ واعمَلْ صالحاً، لتكونَ أحدوثةً حسنةً مُستحسَنةً، عند أُولي الألباب، الذين يتتبَّعونَ السِّيَر، وينتفعُونَ بالعِبَر، ويتَّعِظُونَ بمَن غَبَر، ويستدلُّونَ عليهمْ بالأَثَر، فيمدحُونَ ويترحَّمونَ، أو بالعكسِ. «شرحُ المقصورة الدريدِية» (عبد القادر المبارك).

الصَّحابِي المُخضرَمُ، حكيمُ العَربِ، أكثمُ بنُ صَيفي، يقولُ: «إنَّمَا أنتمْ أخبَارٌ، فطَيِّبُوا أخبارَكم».

قالَ حكيمٌ: «الأيامُ مَزَارِعُ، فمَا زَرَعتَ فيهَا حَصَدتَهُ».

وكَانَ العَلَّامَةُ، الحِبرُ، التَّابعيُّ، كَعبُ الأحْبَارِ، مَتينَ الدّيَانَةِ، مِنْ نُبَلاءِ العُلَمَاءِ، ومِنْ مَقولاتِه: «إذَا أحببتُمْ أن تعلَمُوا مَا للعَبْدِ عند ربِّه، فانظرُوا ما يَتْبَعُه من حُسْنِ ثناءٍ».

ومِنْ كِبارِ التَّابِعينَ، الإمامُ، القُدوةُ، الحُجّةُ، مُطرفُ بنُ الشخير، وكَانَ يقولُ: «عنوانُ كَرامةِ اللهِ لعَبْدِه، حُسْنُ الثَّناء عليهِ، وعنوانُ هَوانِه، سوءُ الثَّناءِ عليهِ».

وفِي المَنْحَى ذاتِه، قالَ الغنويُّ:

فإذَا بلغتُمْ أهلَكُم فتحدَّثوا ومن الحديثِ مَهالكٌ وخلودُ

وللشَّاعرِ الجَاهِلِيِّ، قطبةَ بنِ أوسِ بنِ مُحصنٍ، قولُه:

فَأَثْنُوا عَلَينَا لَا أبَا لأبيكمُ

بإِحْسَانِنَا إِنَّ الثَّنَاءَ هُوَ الخُلْدُ

أمَّا مضرسُ بن ربعي الأسَدِي، فقالَ:

فإنّي أُحبُّ الخُلْدَ لو أستَطِيعُه

وكالخُلْدِ عندي أن أموتَ ولم أُذَمْ

وكانَ أبو عمرو بن العلاء يتمثَّلُ، فيقولُ:

وسيبقَى الحديثُ بعدَك فانظر

خيرَ أحدوثةٍ تكونُ فكُنْهَا

والمعنَى ذاتُه توسَّع فيه داودُ بن جهور، فقالَ:

إذا أعْجَبَتْكَ طِباعُ امرِئٍ فكُنْه يَكُنْ مِنْكَ ما يُعْجِبُك

فليسَ على الجُودِ والمَكْرُماتِ حِجَابٌ إذا جِئْتُه يَحْجُبُك

ولأبِي الطَّيّب:

ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُهُ الثَّاني وحاجَتُهُ

ما قَاتَهُ وَفُضولُ العَيْشِ أَشْغَالُ

ووصية أبي الحسن التهامي، ألا تطمئن للحياةِ، ولو كنتَ من نقلةِ الأخبار... يقول:

بَيْنَا يُرَى الإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِراً

حَتَّى يُرَى خَبَراً مِنَ الأَخْبَارِ

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه



GMT 08:24 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

تركيا والقبعات المتعددة

GMT 08:21 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

كارثة وفاة سباح الزهور

GMT 08:19 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

عبد الوهاب المسيرى.. بين عداء إسرائيل والإخلاص للوطن

GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt