بقلم : عبد اللطيف المناوي
بعيدًا عن التفاصيل القانونية البحتة، لا يمكن فصل الدعوى التى رفعها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ضد هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» عن تاريخ طويل من الصدام بينه وبين وسائل الإعلام التقليدية. فمنذ صعوده السياسى، لم يتعامل ترامب مع الإعلام باعتباره سلطة رقابية أو شريكًا فى المجال العام، بل بوصفه خصمًا مباشرًا. خطاباته المتكررة التى تصف الصحافة بـ«العدو» أو «آلة التحريف» لم تكن مجرد انفعالات عابرة، بل جزءًا من بناء سردية سياسية تقوم على المواجهة الدائمة مع «النخب» والمؤسسات.
فى هذا السياق، يرى كثير من المراقبين أن اللجوء إلى القضاء فى هذه القضية لا يمكن قراءته فقط كمسعى لتحقيق العدالة، بل كحلقة جديدة فى استراتيجية ضغط أوسع. فالدعوى، بحجمها المالى وحدتها الخطابية، تحمل رسالة ردع واضحة؛ أى خطأ مهنى، مهما كان محدودًا أو معترفًا به، يمكن تحويله إلى معركة سياسية وقضائية كبرى. وهنا يتجاوز الأمر حدود تصحيح الخطأ أو المطالبة بالاعتذار، ليصبح استخدامًا للمنصّة القضائية كأداة فى الصراع مع الإعلام.
وهنا نصل إلى جوهر الإشكال. نعم، أخطأت بى بى سى فى التقديم التحريرى لمقطع حساس من خطاب سياسى شديد التأثير، وقد أقرت بالخطأ وقدّمت اعتذارًا، بل دفعت ثمنًا داخليًا عبر مساءلة إدارية وتنظيمية. هذا السلوك، فى حد ذاته، يعكس طبيعة المؤسسات الإعلامية العريقة التى تخضع لآليات محاسبة داخلية صارمة.. لكن فى المقابل، يذهب ترامب إلى أقصى مدى ممكن فى توظيف السلطة القضائية فى مواجهة مؤسسة إعلامية، بما يطرح تساؤلات حقيقية حول الحدود الفاصلة بين الدفاع المشروع عن السمعة، وبين إساءة استخدام أدوات السلطة لتحقيق مكاسب سياسية ورمزية.
القضية، فى حقيقتها، ليست نزاعًا قانونيًا فحسب، بل مرآة لمرحلة عالمية تتسم بتصاعد الشعبوية، وتآكل الثقة بين الإعلام والسلطة، وتحويل الأخطاء المهنية، التى كانت تُعالج سابقًا بالتصحيح والاعتذار، إلى معارك وجودية. وهى تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول مستقبل العلاقة بين الإعلام والسلطة، وحدود النقد، ومعنى المسؤولية فى زمن الصدام المفتوح.
على المستوى السياسى، تعكس هذه القضية جانبًا من المشهد الأمريكى المعاصر، حيث أصبحت المواجهة مع الإعلام جزءًا من أدوات التعبئة الشعبية. فترامب يوظف هذا الصدام لتكريس صورة «الزعيم المحاصر» من قبل مؤسسات إعلامية كبرى، ما يعزز مناخًا شعبويًا يرى فى الإعلام طرفًا سياسيًا لا ناقلًا للخبر. هذا المنطق يريح جزءًا من الجمهور الغاضب، لكنه فى الوقت ذاته يضعف أحد أعمدة الديمقراطية، وهو وجود إعلام حر قادر على النقد دون خوف من العقاب السياسى المقنّع.
هل هناك ما يمكن أن يكون استخلاصًا مهماً لنا، كإعلام بشكل عام، ونحن منشغلون، أو هكذا يبدو، بفهم وإصلاح الشأن؟
فلنحاول..