توقيت القاهرة المحلي 10:27:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«زهرة النار»... الحلمُ يخفقُ فى الرماد

  مصر اليوم -

«زهرة النار» الحلمُ يخفقُ فى الرماد

بقلم: فاطمة ناعوت

فى روايته الأحدث «زهرة النار» يهبُنا «محمد سلماوى» رموزًا واستعاراتٍ عديدة، لا تكتفى بجمالها الفنى، بل تتنفسُ فى جوهرنا وتخزُ أرواحَنا لتعلن عن نفسها؛ بحيث يبدأ كلُّ قارئ فى استعراض شريط حياته ليستخلص عددًا من «زهور النار» التى انبعثت من مواتِها بعد إحراقها وصهرها. Protea Repens زهرةٌ لونها بين الوردى والأبيض والأحمر تنبتُ فى جنوب أفريقيا، تنكمش تحت الجفاف وتبدو ميتة، حتى إذا مسّتها النارُ انتفضت وأزهرت فى أعجوبة ربانية لا تشبه إلا نفسها.

سرّب لنا الأديبُ الكبير، وعلى نحو خاطف، ذلك الرمزَ الذى لا يكتفى بالدهشة النباتية، بل يفتح أبواب التأمل فى معنى البقاء، ومعنى الانتفاض، ومعنى أن تكون النارُ أو الموتُ سبيلًا للحياة.

الحُبُّ فى الرواية هو تلك النار: قبسٌ من لهيبٍ مُستّعِر، يعيدُ إلى «عالية»/الزهرة أنفاسَها بعدما أطفأتها الوحدةُ والترمّل والفقد. لكن ذلك اللهيب الذى أيقظ مواتَها وأورقَ ذبولَها، لم يستطع أن يذيب صخورَ مجتمع لا يعبأ بالزهور ولا يحزنه ذبولها. هنا المفارقة التى نسجها «سلماوى» بمهارة: أن السياسة، بكل ما فيها من مطاردات وصراعات وتوازنات ومصالح وقسوة، قد تسمح بتكوين حزب فى زمن يرفضُ الأحزاب، بينما المجتمع، بما فيه من أعرافٍ قاسية وأحكام متوارثة، يحاصرُ الحبَّ ويقتلُ القلوبَ ويجهض حلمَ زواج بسيط بين عاشقين فرّقت بينهما الطبقاتُ وفروق الزمن. السياسة، على عُسر دروبها، لها أبوابٌ يمكن طرقُها، أما الأعرافُ فهى جدرٌ صمّاء لا نوافذ فيها ولا تسمح بمرور الشمس.

لكن «سلماوى» لا يتركُنا عند دهشة المفارقة، بل يدفعنا إلى ما هو أعمق: طبيعة الحلم المؤجَّل. حُلم الزهور بالحياة. الحلمُ المؤجل ليس جثةً تُوارَى فى الثرى، بل بذرةٌ تنام فى عتمة النسيان حتى يحين موسمُ إثمارها. بل قد يكون الحلمُ أكثر حياةً وسطوعًا وهو مؤجَّل؛ لأنه يظل يمدّنا بوميضٍ سرّى، يبقينا فى حالة انتظار ورجاء وترقّب وشغف.

العاشقان «خالد» و«عالية» لم يتوّج الزواجُ حكايتَهما، لكنهما أورثانا سؤالًا مزلزلًا:: هل قيمةُ الحلم فى تحقيقه، أم فى بقاء جذوته مشتعلة فى رماد الوجدان؟

زهرة النار إذن ليست زهرة العاشقين وحدهما، بل هى رمزٌ لكلّ حلمٍ مؤجَّل فى حياة كلّ إنسان منّا. هى نحن الذين ننكمش ونذوى تحت رماد الأعراف الثقيلة التى لا تستندُ إلى قانون أو منطق أو شرع، ثم تمسّنا نارُ فَقدٍ أو نارُ حبٍّ أو نارُ ثورةٍ، فننتفضُ، وتتنفس قلوبُنا تطلبُ الحياة. قد نحترقُ، وقد نُبعثُ، لكننا لا نعود كما كنا. يُذكِّرُنا «سلماوي» بأن الذبول قد يكون طريقًا للصحو، وأن الموات الظاهر قد يكون خطوةً فى رحلة تحوّل الجذور نحو بعث جديد.

ولعل أجمل ما فى الرواية أنها لا تترك القارئ يلهث وراء سؤال: «لماذا لم يتزوّج العاشقان؟”، بل تضعه أمام سؤالٍ أصعب: لماذا يخيفُنا أحلامُ القلوب أكثر مما تخيفنا معاركُ السياسة؟ لماذا الأعرافُ أقوى من القوانين؟ السياسة تتبدّل بنصوصٍ وتشريعات، لكن المجتمع لا يتغيّر إلا إذا اهتزّت جذوره العميقة، وإذا اقتنع أن الحب ليس جريمة. المجتمع ذاته جثمان »زهرة نار« تنتظر نارَ الصحو والوعى.

لغة الرواية بسيطة سلسلة، لكنها تستدرجك إلى عوالم الرموز والدلالات والإسقاطات حتى تخطفُك فى شَرَك التأمل. ليس تأمل أحداث الرواية وصروف القدر مع الحبيبين «عالية وخالد» والصديق السياسى والأحزاب وهموم الوطن، بل تأمل حياتك الخاصة للوقوف على زهورك الخامدة التى تنتظر كل يوم لهيبَ إيقاظها. فى كل صفحة من صفحات الرواية يذكّرك «سلماوى» أن الأحلام المؤجلة أكثرُ خصوبة من الأحلام المتحققة. الحلم حين يتحقق ينطفئ بريقه، أما حين يُؤجَّل يظلّ يضيء ليلَ الروح، يوقظ أسئلةً، ويرسم احتمالاتٍ، ويمنحك عزاءً بأن الغدَ ممكن.

أخفق العاشقان »خالد« و»عالية« فى تتويج قصتهما، وألقيا بزهورهما إلى صقيع الفراق بعدما أشرقت بنار الحب. لكن ذلك الإخفاق تحوّل إلى إلى نصٍّ، والنصُّ صار زهرة نار جديدة ألقاها «سلماوى» فى وجوهنا، لُتسائلنا: أيّهما أعمقُ أثرًا: حلمٌ تحقّق سريعًا وانطفأ، أم حلمٌ مؤجَّل يظلّ يتوهج فى أعماق أرواحنا، يُخصٍّب وعيَنا، ويزرع فى مداركنا أسئلةً لا تنتهى؟ هكذا تخرج من الرواية وأنت تدرك أن الحياةَ لا تُقاس بما تحقق فقط، بل بما ظل مؤجَّلًا، يتنفس فى العتمة، وينتظر قُبلة النار. الحياة تُقاس بعدد زهور النار التى تتوق إلى ألسنة لهبٍ تُذيبُ سُكرّها ليصير شهدًا مُصفّى.

أنهيتُ الرواية الحارقة، وذابت روحى مع فيض الرومانسية المضفورة بسحر الفن، واحترق قلبى بنار الخاتمة الحزينة. كنتُ «زهرة نار» احترقت لتصحو على واقع يسمُ مثل تلك العلاقات الجميلة بوسم: Too Nice to be True. فالأشياء الجميلة غالبًا عمرها قصير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«زهرة النار» الحلمُ يخفقُ فى الرماد «زهرة النار» الحلمُ يخفقُ فى الرماد



GMT 10:24 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل سوريا بين إسرائيل… وأميركا وتركيا

GMT 10:22 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

تركيز إسرائيل على طبطبائي… لم يكن صدفة

GMT 10:20 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

خطورة ترامب على أوروبا

GMT 10:15 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

المفاوض الصلب

GMT 10:12 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مشكلتنا مع «الإخوان» أكبر من مشكلات الغربيين!

GMT 10:07 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

إعلان الصُّخير... مِن «دار سَمْحين الوِجِيه الكِرامِ»

GMT 10:04 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

اصنعوا المال لا الحرب

GMT 09:57 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

توسعة الميكانيزم... هل تجنّب لبنان التصعيد؟

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt