توقيت القاهرة المحلي 10:27:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

وقع المحذور... زالَ الحَذَر!

  مصر اليوم -

وقع المحذور زالَ الحَذَر

بقلم:تركي الدخيل

مَرِضَ عبدُ الملكِ بنُ عمرَ بن عبدِ العزيز، فَجَزِعَ والدُه عليهِ، ثم ماتَ الابنُ، وبينمَا كانَ عمرُ يدفِنُ فَلذةَ كَبِدِه، رَأى رجلاً يتكلَّمُ، ويُشِيرُ بشِمالِهِ، فَصَاحَ به: إذَا تكلَّمتَ فأَشِرْ بِيَمِينِكَ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا رأيتُ رُجلاً دفَنَ أعزَّ النَّاسِ عَليهِ، ثُمَّ هوَ تَهُمُّهُ يَمِيْنِيَ مِنْ شِمَالِيَ!

فقالَ عُمرُ: «إِذَا اسْتأثَرَ اللهُ بِشَيْءٍ فَالْهَ عَنْهُ».

ورُئِيَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، مُتَسلّياً، بعد فَقدِ ابنِه، فسُئِلَ، فقالَ:

إنَّمَا كَانَ جَزعِي، رِقةً لهُ ورَحمةً، فلمَّا وَقعَ القَضاءُ، زالَ المحذورُ.

فأمَّا قولُه: «فالْهَ عنه» فعل أمرٍ، أي اتركْه. أي تلهَّى عنه.

قالَ المُبرِّدُ: يُقالُ: لَهيتُ عنِ الأمْرِ ألهَى؛ إذا أضربتُ عنه، ولهوتُ ألهُو، من اللعب.

قُلتُ: وليسَ المقصودُ بقولِه: «فَالْهَ عنه»، أن تلهَى بلهوِ اللعب، بل تَلهَى بالإعراضِ والانشغَالِ عنه بغيرِه، ومنه قوله تعالى: «فأنتَ عنهُ تَلَهَّى»، أي تُشغلُ نفسَك بأمرٍ آخرَ.

وقالَ الشَّاعرُ:

ألهَى بنِي تَغلبٍ عَنْ كُلّ مَكرُمَةٍ

قصيدةٌ قالَها عَمرُو بنُ كلثومِ

قال البحتري:

صعوبةُ الرُّزْءِ تُلْقى في تَوَقُّعِه

مُسْتَقبَلًا وانْقِضاءُ الرُّزْءِ أنْ يَقَعَا

الرزءُ: المصيبة، وإنَّما تكونُ المصيبةُ صَعبةً شَاقَّةً، في وقتِ ترقُّبِها، قبل حُلولِها، لكنَّهَا تزولُ إذا وَقعتْ.

وفي الأُفقِ نفسِه، يقولُ أبو نواس، يرثِي الخليفةَ المأمونَ:

وكُنْتُ عَلَيْهِ أحْذَرُ المَوْتَ وَحْدَه

فلَمْ يبقَ لِي شَيْءٌ عليهِ أُحَاذِرُ

يعني: تُوفّيَ الذي كنتُ أخافُ عليهِ الموتَ، فما بَقِيَ بعدَ رحيلِه ما أخشَاه.

واتفق الأصمعي، والمفضّل الضَّبّيّ، وأكثرُ الرُّواةِ، على أنَّه لم يبتدئ أحدٌ من الشُّعراءِ بمرثيةٍ أحسنَ من ابتداءٍ، أوسِ بن حجر، في قولِه:

أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلي جَزَعاً

إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

وَسِرُّ تفضيل مطلعِ مرثيةِ أوسٍ، أنَّه بدأَ قصيدَتَه بمَا يختمُ به النَّاسُ الرّثاءَ عادةً.

حذفَ الشِّاعرُ المُقدِّماتِ، واستبعدَ التَّمهيداتِ، وكأَنَّه يُرَدِّدُ قانونَ الهندسة: «أقصرُ مسافةٍ بين نقطتين هي الخطُّ المستقيم».

وبالخَطّ المستقيمِ، كانَ أوْسُ صريحاً ومباشراً مع نفسِه، فزجرَهَا، وأمرَهَا بالتَّوقُّفِ عن الجَزَعِ فوراً.

والجَزَعُ: نَقيضُ الصَّبرِ، وهو انْقِطَاعُ المنَّةِ عَنْ حَمْلِ مَا نَزَلَ بالمرءِ من مَصَائبَ.

لكنَّه لم يكتفِ بأمرٍ بلَا تبريرٍ، بل برَّرَ في عَجُز بيتِه، سببَ أمرِه، فقالَ:

إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

تحذرينَ: الحذر: التَّحَرُّزِ وَالتَّيَقُّظِ.

وما تحذره النفس، هو فقد الأحبة بموتهم، والحذر يكون قبل حدوث ما يُحذر منه، فإذا وقع وحدث، فليس هناك ما يُحذر منه. والعربُ تقولُ: الحذرُ أشدُّ من الوَقيعةِ.

وبرَّرَ ابنُ المظفَّرِ الحَاتِمِيّ، اعتبارَهم بيتَ أوسٍ السَّابق، أحسنَ ابتداءِ مرثيةٍ، بقوله:

«لأنَّه افتتحَ المرثيةَ بلفظٍ نطقَ به علَى المَذهبِ الذي ذهبَ إليهِ منهَا في القصيدة، فأَشْعَرَكَ بِمُرادِه، في أوَّل بيتٍ، وهذا نهايةُ وصفِ الشِّعْر، والشاعر».

قد نجدُ أنفسَنا ننساقُ دونَ وَعي، لنعيشَ الألمَ بعدَ وقوعِ ما نحذرُ، والواجبُ على العَاقلِ أنْ يُبادرَ بزجر نفسِه، ويقولُ لها حَازماً:

أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلي جَزَعاً

إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

لكن يبدو أنَّ ابنَ الرومِي كان لا يكترث بكلّ هذا؛ إذْ يقُولُ في فقدِه ابنَه محمداً:

أوَدُّ إذَا مَا المَوتُ أوْفَدَ مَعْشَراً

إلى عَسْكَر الأمْواتِ أنِّي من الوفْدِ

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وقع المحذور زالَ الحَذَر وقع المحذور زالَ الحَذَر



GMT 10:24 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل سوريا بين إسرائيل… وأميركا وتركيا

GMT 10:22 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

تركيز إسرائيل على طبطبائي… لم يكن صدفة

GMT 10:20 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

خطورة ترامب على أوروبا

GMT 10:15 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

المفاوض الصلب

GMT 10:12 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مشكلتنا مع «الإخوان» أكبر من مشكلات الغربيين!

GMT 10:07 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

إعلان الصُّخير... مِن «دار سَمْحين الوِجِيه الكِرامِ»

GMT 10:04 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

اصنعوا المال لا الحرب

GMT 09:57 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

توسعة الميكانيزم... هل تجنّب لبنان التصعيد؟

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt