توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مكر التاريخ

  مصر اليوم -

مكر التاريخ

بقلم:جمال الكشكي

الدائرة تكتمل، والدائرة أكمل الأشكال الهندسية، كما قال الفلاسفة اليونان، والاكتمال هنا ظهر في العاصمة البريطانية، لندن، عاصمة الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، صاحبة وعد «بلفور» بتمكين إسرائيل من فلسطين العربية، حين وعدت بإقامة وطن قومي لليهود عام 1917، بتوقيع آرثر بلفور، وزير الخارجية الشهير، الآن لم يستطع ضباب لندن أن يحجب الرؤية عن حقيقة ظلت مائة وثمانية أعوام تراوح بين الموت والإبادة، لشعبٍ شاء حظه العَثِر أن تنتهي نتائج الحرب العالمية على أراضيه، لندن تكمل الجزء المفقود لتكتمل، وتعترف بدولة فلسطين، ويُرفَع علم فلسطين على أراضيها.

ثمة مفارقة، فرغم خروج بريطانيا من عصر الإمبراطورية العظمى، فإنها لا تزال محور السياسة العالمية، ولديها ما يسمى دول الكومنولث؛ وتمتد على الكرة الأرضية طولاً وعرضاً، ولديها آثار عميقة في دول وشعوب حول العالم؛ ولذا لم يكن غريباً أن تعترف كندا وأستراليا بدولة فلسطين بالتوازي معها؛ لأنهما دولتان ضمن سياق التاج البريطاني، وبالتأكيد فإن اعتراف بريطانيا سيشكل صدمة هائلة لإسرائيل، وقد انعكس ذلك فيما كتبه الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، على موقع «إكس»، إنه يوم حزين في إسرائيل، فالبلد الذي وضع اللبنة الأولى لدولة إسرائيل هو نفسه الذي يقوم بعدل الميزان، فلم يتخيل العقل الإسرائيلي أن تكون بريطانيا نفسها هي التي تكتب وعداً جديداً، صحيح أن بريطانيا حين كانت منتدبةً على فلسطين، قدمت «الكتاب الأبيض» عام 1939 الذي كان يحاول حل الصراع العربي - اليهودي في أرض كنعان، ذلك الكتاب الذي جاء بعد اندلاع الثورة الفلسطينية بين عامي 1936 و1939، الذي كاد أن يحدث لولا أن اندلعت الحرب العالمية الثانية، لكن بريطانيا نفسها أيضاً أسهمت في الهجرة اليهودية الكثيفة إلى فلسطين، وظلت تدعم إسرائيل دبلوماسياً وعسكرياً، حتى إنها شاركتها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

جرت تحت الجسر مياه كثيرة، الضمير العالمي انتفض بفعل ارتكاب الإبادات والجرائم الكبرى في حق الشعب الفلسطيني، لندن تعرف جيداً دروب السياسة العالمية، تمتلك جيداً مهارة استشعار الخطر الذي ربما يمزق النظام الدولي؛ وهي أحد أعمدته الكبرى مع الولايات المتحدة.

دهاء السياسة البريطانية جعلها تستبق بخطوة، فهذا النظام الدولي لن يستمر طويلاً، فاستشرفت بريطانيا ملامح العصر القادم، فتغاضت عن غضب إسرائيل والحزب الجمهوري الأميركي، وحتى عن غضب رعاياها من معتنقي الديانة اليهودية؛ الذين اعتبروا اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين كارثة تاريخية، وقالوا إنهم سيغادرونها إلى إسرائيل.

الاعتراف البريطاني ليس كأي اعتراف آخر، فقبل يومين من هذا التحول التاريخي، كانت لندن تستقبل الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، في زيارة دولة رسمية، ومعروف أن الرئيس الأميركي يرفض وحزبه الجمهوري الاعتراف بدولة فلسطينية، لكن حسابات لندن تختلف عن حسابات واشنطن عندما يتعلق الأمر بالمسارات الاستراتيجية.

لا شك في أن لندن تقرأ إشارات أمواج الاعترافات الجارفة بعناية ودقة، هناك أكثر من 90 في المائة من سكان الأرض يقفون في الجانب الصحيح من التاريخ، وبريطانيا ـ الحصيفة سياسياً ـ مدربة على قراءة المتغيرات والقفز عليها، وقيادتها ثم استثمارها استراتيجياً، وها هي تفعل.

هذا السياق العالمي الجديد يضع خرائط العالم أمام اختبار وجودي، فنحن إزاء اعترافات نادرة في العدالة الدولية الحالية بشأن قضية طالت قسوتها أكثر مما ينبغي، وفي الوقت ذاته تقابلها تهديدات وجودية يساعد عليها امتلاك أسلحة استراتيجية، يمكن أن تستخدم عرضاً في حرب عالمية ثالثة وأخيرة، ومن ثم أدرك الأوروبيون خطر اللحظة، فسارعوا باستباق سياسي، دفعت إليه المنظومة العربية؛ مصر والمملكة العربية السعودية، وتسلمته فرنسا ومعها بريطانيا، ومن قبل كان موقف إسبانيا الواضح والصريح، ثم جاءت كندا وأستراليا والبرتغال لتضيف أبعاداً مطلوبة في العدالة الدولية، ولا شك في أن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، شجع العالم المتردد على الاعتراف بدولة فلسطين من قبل 157 دولة وبحل الدولتين، وإنما يؤكد ذلك أن العالم يريد أخيراً إنجاز عدالة غائبة، والانتهاء من فصل الحرب العالمية الثانية المرير.

لكن هذا وحده لا يكفي، فالاعتراف يحتاج إلى تعامل حكيم، وقيادة فلسطينية تُمسك باللحظة التي ربما لا تتكرر في سياق آخر، فمن غير المعقول أن ينتفض العالم باعترافاته، بينما تبقى الساحة الفلسطينية ممزقة بين فصائل وجماعات وتنظيمات وقوى إقليمية، تستغل هذا الانقسام لمصالحها الاستراتيجية الذاتية، وعلى حساب مستقبل الشعب الفلسطيني.

وأيضاً أرى أن العرب مطالبون في هذا التوقيت الدقيق بمساعدة الفلسطينيين في تشكيل مثل هذه القيادة الحتمية والضرورية، لا سيما أن الأخطار أكبر مما يتصوره أي عقل، ويتبدى ذلك في تصريحات بنيامين نتنياهو، الذي يسابق الزمن لكسر رقبة الاعترافات الدولية، بعد أن صدمه مكر التاريخ وإخلاص الجغرافيا.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مكر التاريخ مكر التاريخ



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt