توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن مصير الدولار!

  مصر اليوم -

عن مصير الدولار

بقلم: د. محمود محيي الدين

مع كل أزمة اقتصادية تعترض العالم يثور تساؤل مشروع عن مستقبل الدولار بصفته عملة دولية تُسوَّى بها المعاملات عبر الحدود، وفي كثير من الأحوال داخلها أيضاً، وتسعَّر بها المنتجات من سلع وخدمات، ويُلجأ إليها لحفظ القيمة والمدخرات عبر الزمن. وقد أطل الدولار منافساً بعيداً للجنيه الإسترليني، منذ نحو مائة عام، مستنداً إلى قوة الاقتصاد الأميركي الصاعد بقوة مقابل الإسترليني الذي أعيَتْه الحرب العالمية الأولى، ثم تلتها الثانية بأعبائها وديونها.

ورغم الخسائر الاقتصادية للحربين العالميتين استمر الإسترليني على عرش العملات الدولية بفضل الاعتياد عليه في زمنه، ولعدم إدراك عمق ما أصاب بريطانيا من وهن. حتى أتت لحظتان فارقتان: الأولى مع صياغة اتفاق بريتون وودز في يوليو (تموز) 1944، الذي لم يشر إليه على أنه العملة المعيارية للمعاملات المالية لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. اللحظة الثانية جاءت مع العدوان الثلاثي الغاشم على مصر، فيما تُعرف بأزمة السويس 1956، وكان الإسترليني متعارفاً عليه وقتها بأنه عملة صعبة تشكل 55% من الاحتياطي الدولي. وقد أرغمت الولايات المتحدة بريطانيا وشريكتيها، فرنسا وإسرائيل، على وقف العدوان. فأدرك الناس أن ما عُرف وقتها بالعالم الحر له رأس جديد، وكان لعملة هذا الرأس أن تتمتع بممارسة ما أطلق عليه جيسكار ديستان، عندما كان وزيراً في الحكومة الفرنسية في الستينات، الامتياز السخيّ.

وعلامات هذا الامتياز الفياض في عطاياه للولايات المتحدة أن تقترض بأقل تكلفة، وأن تسدد كل قروضها بعملتها المحلية التي تتحكم في مطابعها، وأنه رغم عجز تجارتها فإنها لها أن تتمتع باستقرار نقدي، وتمارس من خلال سلطتها على هذه العملة الصعبة، التي ما زالت تشكل 60 في المائة من إجمالي الاحتياطي الدولي، نفوذاً مالياً، تعيَّن في بسط هيمنتها على عالم ما زالت الولايات المتحدة فيه صاحبة الاقتصاد الأكبر، والجيش الأقوى، والتكنولوجيا الأحدث.

فإذا ما كان الوضع على هذا النحو فما بالنا برئيس الولايات المتحدة يخرج على العالم، بعد فوزه المدوّي في انتخابات لم يطعن فيها أحد، بأن بلاده تتعرض منذ زمن لانتهاكات تجارية، وأنها ضحية «غش وسرقة واحتيال ونهب»! فما ندري ماذا ترك رئيس أكثر الدول ثراءً لرؤساء أسهم في إفقار دولهم النظامُ الدولي اللامتكافئ وأورثهم فقراً مدقعاً، وأمراضاً عضالاً لسوء التغذية، وتخلفاً عن مكتسبات التقدم؟ يبدو أن هؤلاء لم يُحسنوا صنعاً في الولايات المتحدة، كالذي أحسنوه في أفريقيا وباقي بلدان عالم الجنوب!

قل ما تقوله في دوافع وأساليب الإدارة الأميركية، ولكن كما بسط لنا الأمر الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، مايك سبنس، في مقاله الأخير عن مواجهة العاصفة الترمبية: «أميركا عازمة على تغيير هيكل التجارة العالمية، ومعها الاستثمار الأجنبي المباشر لمصلحة الاستثمار المحلي الأميركي، وتشغيل العمالة الأميركية». ولكن هذا الهدف يعترضه معوق كبير؛ وهو الإقبال على الأصول المالية الأميركية من سندات وأسهم، ووضع الدولار عملةَ احتياطيٍّ دوليٍّ. ولن يكتمل تحقيق هدف قلب ميزان التجارة فعلاً إلا بأن تقلِّل متعمِّدةً جاذبية أصولها المالية الدولارية، بتقييد حساب رأس المال لميزان المدفوعات، وإلا ظل الأمر على ما هو عليه. ولتبسيط الشرح فإن التعهد الضمني الأميركي هو احترام المزايا النسبية؛ فتصدِّر إليها الدول منتجاتها وتقوم هي بتصدير ما يمكنها أيضاً من سلع زراعية وصناعية، وهذا يعكسه ميزان التجارة لميزان المدفوعات. كما تصدِّر وتستورد الولايات المتحدة خدمات كالسياحة والنقل واللوجيستيات، وهذا يعكسه الحساب الجاري لميزان المدفوعات. عجز الميزانين معاً يعوِّضه تدفق في الاستثمارات، والقروض الخارجية. علماً بأن إجمالي المديونية الأميركية العامة المحلية والخارجية بلغت 36 تريليون دولار، إذن فَفَكُّ الاشتباك التجاري لن يكون إلا بتضحيات في حسابات تدفقات رؤوس الأموال، والتعامل مع المديونيات القائمة والقادمة.

وبهذا فإن ما بدأ بتسليح الدولار، باستخدامه في العقوبات الدولية من خلال تجميد الأصول، ومنع استخدام آلية السويفت على روسيا وغيرها، ثم تلغيم قنوات التجارة من خلال التعريفة الجمركية بإعادة تعريفة عجيبة لمفهوم المعاملة بالمثل، ثم شل حركة منظومة المساعدات الإنمائية، ثم تقويض ما هو متعارف عليه بالنظام الدولي المتعدد الأطراف المبنيّ على قواعد حاكمة، وإحلاله بنهج فرض القوة... قد بدد هذا كله ما تبقى من «نظام دولي»، أو قُلْ ترتيبات دولية للعلاقات الاقتصادية. فقد شهد النظام الاقتصادي الدولي اضمحلالاً منذ الأزمة المالية العالمية، بما صاحبها وتلاها من تراجع الطبقة الوسطى الأوروبية وازدياد مخاوفها على ما تمتعت به من مزايا وخدمات دولة الرفاهية، وتراجع آخر في الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة، وازدياد إحباطاتها بتبدد الحلم الأميركي في تحقيق الثراء، مع زيادة حدة التفاوت والاستقطاب وعدم العدالة في توزيع الدخل والثروة. ومع تحديات التنافسية وآثار الثورة التكنولوجية ومستجدات الذكاء الاصطناعي، لن تسلم هذه الطبقات من أذى لن يعالجه حتماً تسليط جام الغضب على الأكثر كفاءة في التجارة الدولية أو الأكثر جهداً من العمالة الوافدة.

إن الإجراءات الأخيرة وإنْ استهدفت التجارة والاستثمار فهي في واقع الأمر قد حطَّمت ما تبقى من قواعد الاقتصاد الدولي الموروث منذ الحرب العالمية الثانية بممارساته وآلياته. وسيبقى الدولار، إلى حين، حتى يأتي البديل أو البدائل العملية. فهو باقٍ ليس لقوة مطلقة فيه، بل لضعف نسبي في بدائله، ولنا في الجنيه الإسترليني عبرة. وفي هذا كله تفاصيل سأتناولها في مقال قادم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن مصير الدولار عن مصير الدولار



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt