توقيت القاهرة المحلي 10:19:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

التراث والموروث والحضارة

  مصر اليوم -

التراث والموروث والحضارة

بقلم: رضوان السيد

أخبرني لبناني في أستراليا أن جاره ذا الأصول اللبنانية مثله رفض تعريض نفسه وأُسرته للفحص ضد «كورونا»، وقال للسلطات الصحية إن التداوي من الأوبئة ليس من تقاليد «الموروث» الديني عنده، وإنما المطلوب الحذر والتوكل! وسألتهُ: هل أصابه شيء؟ فأجاب أنه أُرغم على إجراء الفحوص له ولأُسرته، وما أصابهم شيء! والذي أعرفه أنه ما كان هناك أبداً موقف سلبي من التداوي خلال قرون الطواعين، حتى لدى أولئك الذين لم يكونوا يرون حصول العدوى، فمن أين أتى الرجل بأخباره عن «الموروث» المزعوم؟!
من ستين عاماً وأكثر لا يكاد يمر شهرٌ إلا ونقرأ مقالة أو رسالة أو كتاباً أو نظرية في ضرورة الخروج على «الموروث» الثقافي والحضاري والديني والأخلاقي من أجل التنور والتنوير وإطلاق العقل من عقاله للسماح بدخول الحضارة وشموسها إلى خبايا الزوايا المعتمة في الوعي واللاوعي (!). وفي هذا الأسبوع بالذات قرأتُ مقالتين إحداهما لزميل معروف عنوانها: «العروي يواصل دفاعه عن القطيعة»، والأُخرى: «نحن والتراث كيف نتجاوزُهُ بأخلاق؟»، ولستُ أُريد مجادلة الزميل المتابع لفكر الأستاذ العروي من زمان، شأن زميل آخر متابع أيضاً لتفكير الأستاذ محمد أركون. فقد جفت الأقلام واسودت الصحف، وما عادت هناك فكرة جديدة لدى خصوم التراث أو أصدقائه، وسواء أكانت تلك الفكرة مستندة إلى معلومة أو انطباع أو فهم معين أو صورة مسبقة عن التنوير الأوروبي الذي يراد منا اعتناقه من أجل التحرر من أوهام الموروث وجموده!
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان دارسو الإسلام والشرق الأوسط يكتبون في أمرين: عن انقضاء (Passing) المجتمع التقليدي لصالح الحداثة الاجتماعية والسياسية - وعن: إلى أين يتجه الإسلام؟ باعتبار أنه «فارقَ» التقليد، إنما إلى أين تتجه الأنظار العامة لمفكريه وجمهوره في الثقافة والسياسة... والدين. ورغم كل التطورات العاصفة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ما تعرض الجمهور وإسلامه لتحدياتٍ شديدة الهول مثل تحديات العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، أنت تستطيع أن تدعم استقلال الجزائر، بل وأن تساعد في إنشاء نظام جمهوري باليمن (رغم أن ذلك أخطر!)؛ لكنك لا تستطيع السماح بإرسال «مجاهدين» إلى أفغانستان باسم الدين، حتى لو كانت البلاد محتلة من الروس.
في الوقت الذي كانت فيه ظواهر «الإحياء والصحوة» والنشورية والمهدوية تتفاقم في الإسلام في ذلك العام السحري العجيب (1979)، كانت إدانات الموروث وتحميله أعباء ومسؤوليات وتفويتات وسحريات الصحويات والممارسات «الجهادية» تتزايد. ولستُ أزعُمُ أن «مجاهدي» أفغانستان من العرب وغيرهم إنما أثارتهم هجمات أركون وزملائه وتلامذته، فهم لم يكونوا قد أدركوا بعد أن «المجاهدين» والصحويين هم مثلهم تماماً، أي أنهم ثائرون على «التقليد» أو صورته المتخيلة: الحداثيون يريدون إسلاماً جديداً، والصحويون و«الجهاديون» يريدون إسلاماً (أصيلاً) يعتبرون أن «التقليد» انحرف عنه. رأيتُ الأستاذ أركون في الثمانينات بقبرص (التي كنا نحن اللبنانيين وبعض العرب نلجأ إليها للقاء هرباً من الحروب الداخلية - ولا أدري إلى أين سنلجأ الآن مع سيطرة نوعٍ آخر من «الجهاديين» على بلادنا!)، فتجادلنا في نقطة منهجية محددة: مسألة التأصيل أو (العودة إلى الأصول) لاستخدامها في «تحرير» الموروث من التقاليد الكلامية والفقهية. وقلتُ له: التقليد انقضى ألم تقرأ كتب بولك وتشمبرلين... وحتى صادق جلال العظم؟! ما نشهده وتشهده اليوم هم متمردون جدد مثل ثوار أميركا اللاتينية، هم يعودون للأصول من فوق التاريخ أو تحته، ويقرأون الكتاب والسنة على هواهم، ويسمون أنفسهم تسميات تراثية لا علاقة لهم بها ليتقربوا للجمهور، وقد بدأ الجمهور يكرههم لعنفهم ولغرائب التفسير والتقدير: يا رجل، ألم تمسسك «التاريخانية» بشُواظها حتى اليساري من تياراتها بحيث يدفعك ذلك إلى مراقبة وتتبع الإسلام في التاريخ، للتوصل إلى أن نفهم الموروث ونتجاوزَه دونما قطيعة أو إدانة؟ أنا أرى أن تلامذتك الذين يريدون تقليد النهوض الأوروبي مباشرة من دون تأويلاتٍ هم أصرحُ منك. وذهب أركون فكتب دراسته: استحالة التأصيل، لكنه ظل مصراً (لعيشه في البيئات الأوروبية والأميركية المهللة له) على أنه شأن التنويريين الأوروبيين مثل لايبنتز وسبينوزا وجون لوك وروسو الذين أعادوا قراءة الكتاب المقدس، يستطيع تحويل المسلمين إلى وجهة أُخرى من طريق إعادة قراءة القرآن قراءة غير تقليدية!
لقد صارت جوانب «الجبهة» واضحة عندما انطلقت في التسعينات ومن دون غموض القراءات الاستراتيجية والحضارية لعلاقات الإسلام بالغرب، وأنها علاقاتٌ صراعية، إذ إن الإسلام يملك «حواشي» وحدوداً دموية، نتيجة عدم دخول المسلمين في الحداثة، كما دخل صُناع الحضارة اليهودية - المسيحية! وشئنا أم أبينا؛ فإن هجمات «القاعدة» وأخواتها ومتولداتها على مدى عشرين سنة بين 1998 و2018 صارت في وعي العالم دليلاً لا يُدحَضُ على عنف الإسلام الذي لا علاقة له بالموروث والتقليد كما يزعم المستشرقون الجدد والحداثيون العرب! وهو الأمر الذي قاله لي هنتنغتون في نقاشٍ معه بالجنادرية بالرياض عام 2006.
لا أعرف إذا كان الأستاذ العروي أكبر المفكرين العرب الأحياء من وجهة نظري، ما يزال مصراً على القطيعة، فهو تحدث غالباً عن الفوات، وكتبه الأخيرة منذ «السنة والإصلاح» لا تدلُ على ذلك. أما الذي أنا على يقينٍ منه أن مشكلات الموروث والتقليد هي مسائل منقضية في الواقع، وينبغي أن تنقضي في الوعي. هو تاريخٌ ثقافي ندرسه كما تدرس سائر الأمم تاريخها. بملايين الضحايا ما استطاع ماو تسي تونغ في ثورته الثقافية إرغام الصينيين على القطيعة مع ماضيهم. لكن ثلاثين عاماً من التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي المضغوط غيرت وصححت وفتحت الآفاق على الماضي والحاضر والمستقبل!
لدينا تأزماتٌ كبيرة وانشقاقات في الدين والاجتماع والوعي ناجمة عن اختلالات الحاضر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ولا عيب في حضارتنا ولا في موروثنا الديني والثقافي، وسواء أتأملناه بأخلاق أو دون أخلاق! الدولة الوطنية ذات الحكم الرشيد، واستعادة السكينة في الدين، هذان الأمران يحلان مشكلات الموروث، ومشكلات الحاضر!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التراث والموروث والحضارة التراث والموروث والحضارة



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:33 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

عمرو يوسف يتحدث عن "شِقو" يكشف سراً عن كندة علوش
  مصر اليوم - عمرو يوسف يتحدث عن شِقو يكشف سراً عن كندة علوش

GMT 22:56 2018 الثلاثاء ,24 إبريل / نيسان

إيدين دغيكو يصنع التاريخ مع روما

GMT 18:14 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

محمد هاني يتعرض لكدمة قوية في الركبة

GMT 02:04 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

اللقطات الأولى لتصادم 4 سيارات أعلى كوبري أكتوبر

GMT 16:20 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

مقتل 3 مواطنين وإصابة 4آخرين في حادث تصادم في المعادي

GMT 07:05 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أجمل ديناصور في العالم بألوان مثل طائر الطنان

GMT 06:33 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

تعرف على أسعار الحديد في الأسواق المصرية الثلاثاء

GMT 21:12 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

الأهلي يعترف بتلقي مؤمن زكريا لعرض إماراتي

GMT 00:34 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النصائح الخاصة بإدخال اللون الذهبي إلى الديكور

GMT 12:51 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد ناجي يمنح محمد الشناوي وعدًا بالانضمام للمنتخب

GMT 14:37 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الإعدام شنقًا لـ7 من أعضاء خلية "داعش" في مطروح

GMT 13:23 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"الخطيب" يدعو أعضاء الأهلي لحضور ندوته الرسمية في الجزيرة

GMT 02:07 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الدولار الأحد في السوق السوداء الأحد

GMT 17:42 2014 الجمعة ,15 آب / أغسطس

حدوث هبوط أرضي في حي الكويت في السويس
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon