توقيت القاهرة المحلي 00:53:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تهدئة الوجود: «كورونا» كمدخل لتغيير عالمي عميق

  مصر اليوم -

تهدئة الوجود «كورونا» كمدخل لتغيير عالمي عميق

بقلم: حسام عيتاني

عودة الحياة إلى طبيعتها هي العبارة التي تكررها وسائل الإعلام يومياً في الأسبوعين الماضيين في تناولها لإجراءات تخفيف القيود على الحركة التي فرضها وباء «كورونا». بيد أن هذه «الطبيعة» ذاتها هي ما بات مجهولاً وفي حاجة إلى إعادة تعريف بسبب عمق التغيرات التي مثّل تفشي المرض على صعيد الكوكب حقبة جديدة من التاريخ البشري.
صعّد «كورونا» ظواهر عدة كانت تتفاعل في جوانب الحياة الموصوفة بـ«الطبيعية»: الأزمات الاقتصادية وانعكاساتها السياسية من صعود لحركات اليمين المتطرف والعداء للاجئين؛ وتدهور البيئة على نحو متسارع حيث شكلت حرائق غابات الأمازون وأستراليا إنذارات بليغة بأن الأرض لم تعد قادرة على تحمل نموذج الاستغلال المُهمل لكل توازن أو تأنٍّ في استغلال الموارد الطبيعية في سبيل الربح السريع. وفي نظر عدد من الباحثين جاء الوباء الحالي من هذه الزاوية بالضبط، من الاعتداء المتمادي للإنسان على الملاذات المخصصة لغيره من الكائنات وضغطه الفادح على بيئاتها واستدخاله بالتالي فيروسات غير معروفة من المحيط الحيواني إلى محيطه.
لذلك قد يكون الأوان قد فات، على الأرجح، على «عودة الحياة إلى طبيعتها» وأن هذه العودة انضمت إلى لائحة طويلة من مواضع الحنين والفراديس المفقودة في الوقت الذي تتشكل فيه «طبيعة» من معدن آخر ما زال الكثير من معطياتها غامضاً بل يدعو إلى الخوف. «طبيعة» ستقوم على ما اجتمع من عوامل قدّمت لمجيء «كورونا» وحضوره هذا الحضور العاصف والمدمر. وليس أقل هذه العوامل أهمية ما بدأ يظهر من تبدلات عميقة في صناعات عُدّت من رموز التقدم العلمي والصناعي منذ منتصف القرن الماضي على الأقل.
صناعة الطيران، على سبيل المثال، التي يجتمع فيها وحولها الكثير من الإنجازات العلمية والتي غيّرت العالم بإتاحتها انتقال البشر والسلع وربطت العالم بعضه ببعض و«ألغت المسافة» على ما يقال، تعاني اليوم مما يشبه سكرات الموت. فبينما تربض آلاف الطائرات على المدرجات منتظرة إشارة الانطلاق إلى السماء واستئناف الرحلات، تدرس الشركات إجراءات فصل عشرات الآلاف من الموظفين والعمال نظراً للانهيار في مكونات الصناعة برمتها والذي لا يفسره تفشي «كورونا» وتوقف حركة النقل وحدهما. ذاك أن الصناعة التي عًدّت من نماذج العولمة تعاني من أزمات متوالية منذ أعوام من اكتظاظ سوق النقل الجوي بالقادمين الجدد والسعي المستمر إلى زيادة الأرباح بكل وسيلة ممكنة. وليست مفاجأة أن المستثمر الأميركي وارن بافيت، الذي تخلص من كل أسهمه في صناعة الطيران قبل أسبوعين قد وصف استثماراته هناك بـ«الخطأ».
وفي السياق ذاته أعلنت شركة «جنرال إلكتريك» الصانع الأكبر لمحركات الطائرات عن نيتها صرف 13 ألف عامل نهائياً، في حين وزعت شركات طيران أميركية على موظفين رسائل تشجعهم فيها على «التقاعد الطوعي» وجاء ذلك بعد فشل شركة «بوينغ» في علاج المشكلات التي أثارها سقوط طائرتين من أحدث طائراتها في العامين الماضيين بسبب خلل فني لم تفلح «بوينغ» في استئصاله إلى حين وقف حركة النقل الجوي في مارس (آذار) الماضي. يتجاوز انهيار صناعة الطيران الوباء، إذن، ليصل إلى صميم المرحلة الحالية من العولمة القائمة على تعظيم العائدات وتقليص النفقات حتى لو كانت هذه حاسمة الأهمية في مجالات السلامة والبيئة وأخلاقيات العمل. وتقدم صناعة الطيران وانهيارها عينة عن عالم ما بعد «كورونا»، حيث سيحاط الإنسان وحركة انتقاله بالريبة والشك، وحيث يحل الانغلاق والخوف مكان الانفتاح والانطلاق اللذين مثّل الطيران نموذجهما الباهر.
ولن يقتصر الجمود على الاقتصاد والانتقال، بل سيشمل العلم وسبل تحصيله على ما يشير العديد من المقالات الحديثة في شأن التعليم عن بُعد التي يرى كتّابها أن المؤسسات التعليمية بدأت باكتشاف إيجابيات هذا النوع من التعليم الذي فرضته ضرورة التباعد الاجتماعي. توفير نفقات المباني الجامعية والقاعات وبدلات المؤتمرات وصيانة المنشآت تصب في سياق تشجيع الجامعات على التمسك ولو بنسبة معينة من التعليم بواسطة شبكة الإنترنت في حين تبرز تساؤلات عن نوعية المعرفة التي سيحصل عليها الطلاب الذين سيُحرمون من التفاعل المباشر ليس مع أساتذتهم فقط بل بينهم أيضاً ومع المحيط الأكاديمي ككل من مكتبات ومختبرات وتجهيزات. في المقابل، ستُطرح أسئلة كبيرة عن معنى العلم وارتباطه بالحياة والاقتصاد في حال استمر الركود العالمي. وليست قليلة المؤسسات التعليمية الكبرى التي راحت تواجه أزمات مركبة يتداخل فيها عبء الوباء مع أعباء التغيرات الاقتصادية والسياسية والاندفاع نحو العزلة ونبذ كل أشكال الاختلاط والتبادل، حتى لو كانت تبادلاً للعلم والمعرفة.
قد يبدو العالم في حاجة إلى «تهدئة الوجود» بعبارة هربرت ماركوزه، أي إبطاء الصراع بين البشر من جهة وبين هؤلاء وبين الطبيعة من جهة أخرى من أجل السيطرة على اقتصاد الندرة. هذا الصراع الذي يسير بالإنسان إلى دماره سواء عن طريق الحرب أو الكارثة البيئية العالمية. تهدئة الوجود كسبيل إلى تطوير المجتمعات وإيجاد حلول لمشكلاتها. المتفائلون يرون أن «كورونا» وفّر فرصة التهدئة المنشودة تلك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تهدئة الوجود «كورونا» كمدخل لتغيير عالمي عميق تهدئة الوجود «كورونا» كمدخل لتغيير عالمي عميق



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 18:31 2020 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

آندي روبرتسون يخوض لقائه الـ150 مع ليفربول أمام نيوكاسل

GMT 06:47 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز بعد نهاية الجولة الـ 13

GMT 02:10 2020 الخميس ,10 كانون الأول / ديسمبر

7 أسباب تؤدي لجفاف البشرة أبرزهم الطقس والتقدم في العمر

GMT 22:29 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

أحمد موسى يعلق على خروج الزمالك من كأس مصر

GMT 11:02 2020 الجمعة ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرّف على أعراض التهاب الحلق وأسباب الخلط بينه وبين كورونا

GMT 03:10 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

زيادة في الطلب على العقارات بالمناطق الساحلية المصرية

GMT 22:14 2020 الجمعة ,18 أيلول / سبتمبر

بورصة بيروت تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,21 إبريل / نيسان

خسائر خام برنت تتفاقم إلى 24% في هذه اللحظات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon