بقلم - د. محمود خليل
الصبر الذي تحدث عنه القرآن الكريم هو الصبر على البلاء، كما يتضح لنا في قوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ» إلى آخر الآية الكريمة، ويمدد البعض حبال الصبر لتشمل، بالإضافة إلى الصبر على البلاء، الصبر على الظلم، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»، وقوله: «وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» وقوله: «وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ».
وظني أن معنى الصبر في الآيات الأخيرة يتوقف عند حد الصبر على الإساءة، فإذا أساء إليك أحد وبادلته الإساءة بالإحسان، فقد يدفعه ذلك إلى مراجعة نفسه وإدراك خطئه، فيحيل سلوكك الطيب العداوة إلى صداقة حميمة بينك وبين الغير، وليس هناك شك أن التسامي على أخطاء وإساءات الآخرين خُلق لا يقوى عليه إلا أصحاب العزم من الصابرين القادرين على السيطرة على مشاعرهم وعدم السقوط في حبائل الشيطان الذي يسعى إلى إلقاء العداوة والبغضاء بين البشر؛ فالصبر هنا على الإساءة وليس على الظلم، وحتى لو فهم من الآيات الكريمة الدعوة إلى ذلك، فإنها تعني مواجهة الظلم بالصبر كخطوة أولى، فقد يدفع ذلك الظالم إلى مراجعة نفسه والتوقف عن ظلمه، وبالتالي تنحل المشكلة، لكن ماذا تكون الحال إذا أصر على الظلم.. هل مطلوب من الإنسان أن يواصل الصبر؟
تقديري -والله أعلم- أن الصبر على الظلم مجرد خطوة في مواجهته، لكن إذا استمر الظالم على ظلمه فلا بد من الأخذ على يده، وهناك العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي تؤكد هذا المعنى. فقد ذكر الله الظالمين من بين أصناف البشر الذين لا يحبهم.. يقول تعالى: «إنه لا يحب الظالمين». وهو يدعو المظلومين إلى الانتصار لأنفسهم ممن ظلمهم.. يقول تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
وقد وصل الأمر إلى حد توجيه المظلوم إلى ترك المجتمع أو البيئة الظالمة في حالة إحساسه بالعجز عن المواجهة أو الأخذ على يد ظالمه، فالأفضل له في هذه الحالة أن يترك هذا المجتمع وتلك البيئة إلى واقع أكثر عدلاً وصلاحاً، ومن يرضَ بالظلم فى هذه الحالة وصفه القرآن بأنه «ظالم لنفسه».. يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا». وعقاب الله للمجتمعات التي يسودها الظلم لا يتوجه إلى الظالمين ويستثني المظلومين، بل يضرب الاثنين معاً.. يقول تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».
الصبر على الظلم ليس خلقاً محموداً، بل من أذمِّ الأخلاقيات التي يمكن أن يتمثلها الإنسان في حياته.