بقلم - د. محمود خليل
يقول الله تعالى في سورة القمر: «إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ». يقول «ابن كثير» في شرح هذه الآية إن الله تعالى قدر قدرا وهدى الخلائق إليه، فقدر الله تعالى سابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها.
فالقدر معناه «علم الله السابق للأشياء»، ومن أسماء الله الحسنى «العليم»، وعلم الله تعالى يحيط بكل شىء وكل إنسان، وهو علم أزلي أبدي، والآيات التي تؤكد على علم الله السابق للأشياء متعددة ومتنوعة، مثل قوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّره تَقْدِيرا»، فكل مخلوق فى هذه الحياة يقع تحت سلطان علم الله تعالى.. وقوله تعالى: «وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى»، فالله تعالى بيّن للإنسان طريقي الخير والشر في الحياة، وأودع في قلبه بوصلة تمكنه من التمييز بين الطريقين.
وتأسيسا على ما سبق، يتوجب علينا أن نعيد النظر في مفهوم القدر كنوع من القهر أو الجبر المفروض على الإنسان ولا يملك الفكاك أو التملص منه، فالقدر يعني العلم المسبق المسجل عند الله حول مسيرة الإنسان في الحياة.. يقول الله تعالى: «قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ». فكل ما يصيب الإنسان في حياته مكتوب عند الله العليم القدير، لكنه هذا الذي يصيبه يكون من عمل الإنسان نفسه، والله تعالى يلطف بعباده المتوكلين عليه فيما يدهمهم من مصائب الحياة، لذا فقد دعا الله المؤمنين في ختام الآية الكريمة إلى التوكل عليه.. فعلم الله المسبق لا يتنافى مع إرادة الإنسان واختياره لأفعاله، والدليل على ذلك تجده في الآية الكريمة التي تقول: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ».
معنى القدر كإشارة إلى علم الله المسبق تجده حاضرا أيضا في الآية الكريمة التي تقول: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». ويشير «ابن كثير» إلى أن الله يخبر فى الآية الكريمة عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ) أي: في الآفاق وفي نفوسكم (إِلَّا فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) أى: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.
الله تعالى قادر مقتدر على أن يسيّر حركة الحياة وحركة الإنسان على مسرح الحياة، وهو سبحانه أيضا عادل، فقد منح الإنسان القدرة على الاختيار وهيأه نفسيا وذهنيا للتمييز بين الصواب والخطأ، وبالتالي فعندما يسلك طريق الخير يكون باختياره، وحين يسلك طريق الشر فباختياره، والله تعالى يحاسبه في النهاية على اختياراته.. يقول الله تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَإِمَّا كَفُورا».. ويقول: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا».. ويقول: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».
مفهوم القدر في القرآن الكريم يدل على «علم الله المسبق» أكثر مما يدل على القهر والجبر.