بقلم: د. محمود خليل
تم نفي أحمد عرابي إلى جزيرة سيلان عام 1883، ومكث هناك يعد الأيام والليالي، ويحصي الشهور والسنين حتى بلغت 18 سنة كاملة.
في سبتمبر عام 1901 كان ولي عهد إنجلترا في زيارة للجزيرة، وهناك طلب «عرابي» مقابلته، والتمس منه العفو عنه، كان الإعلام البريطاني يتابع هذا الحدث، ونشرت جريدة «التميس أوف سيلان» خبر الالتماس، ومكرمة ولي العهد مع «عرابي»، وإصداره قرارا بالعفو عنه، ولم تكتفِ بذلك بل حصلت منه على تصريحات يعلق فيها على هذه المكرمة، فأدلى بتصريحات يمتدح فيها الاحتلال الإنجليزي.
أخذ «عرابي» طريقه إلى مصر المحروسة في سبتمبر عام 1901، لكن تصريحاته لـ«التيمس» التي مدح فيها الاحتلال سبقته إلى القاهرة، ونشرتها جريدة «اللواء» وهاجمت الرجل بشدة، وأفسحت صفحاتها لكل من يريد أن ينتقد عرابي وأن يحمّله كل الأوزار التي لحقت بمصر بعد احتلال إنجلترا لها.
لم يكن «عرابي» البعيد عن مصر منذ 18 سنة يعلم شيئا عن التحولات التي حدثت فيها وعن لمعان نجم مصطفى كامل وتربعه على عرش زعامة الحركة الوطنية، لم يكن يدري شيئا أيضا عن الدنيا الجديدة التي تتشكل بعد أن تولى عباس حلمي الثاني نجل الخديوي توفيق عرش مصر، والحبل المتين الذي بات يربط بين الخديوي الجديد ومصطفى كامل، وكيف توافق الاثنان على النيل من «عرابي» مع اختلاف أسباب كل منهما.
لم يتوقف «عرابي» عند حد التصريحات التي أدلى بها لـ«التيمس أوف سيلان»، بل يبدو أنّه بات شغوفا بالحديث إلى الصحف وإجراء الحوارات والوجود المستمر على صفحات الجرائد، فبتركيبته كان الرجل زعيما يميل إلى الأضواء.
فبعد أن عاد إلى مصر أواخر سبتمبر أدلى بتصريح جديد لجريدة «التيمس اللندنية» عبَّر فيه عن إعجابه بحكم الإنجليز لمصر، كما أعجب به في «سيلان» ثم علق المحرر على التصريح -كما يسجل عبدالمنعم شميس- قائلا: «ويظهر أنّ ما حصل في مدة الثماني عشرة سنة التي أقامها في المنفي بتلك الجزيرة جعله صديقا حميما لبريطانيا».
شكلت التصريحات المتتالية المادحة للاحتلال الإنجليزي لمصر مفارقة كبرى استفزت الكثير من المصريين، فكيف للرجل الذي أعلن الحرب ذات يوم ضد الاحتلال واصطف الشعب من خلفه وحارب معه، وضحى في سبيل استقلال بلاده، يحدث له هذا الانقلاب الخطير فيمتدح عدوه وناهب خيرات بلده والمسيطر على ثرواته؟
لم تكن المسألة سهلة على الشعب أن يجد زعيمه بهذا الضعف والانكفاء والتحول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لكن يبدو أن المسألة كانت سهلة على الزعيم نفسه، والدليل على ذلك أن تصريحاته المدافعة عن الاحتلال لم تتردد على لسانه مرة، فيقول الناس ذل الرجل وينتهي الأمر، بل تكررت في أكثر من مناسبة، بل بمرور الوقت أصبح «عرابي» صيدا سهلا للصحافة التي تريد إثارة الجدل بتصريحات تتصادم مع المشاعر العامة، فاتجهت صحف عديدة نحوه وحاولت استثمار تصريحاته لصالحها.