بقلم: د. محمود خليل
أزمة مالية عنيفة ضربت العالم كله فى الثلاثينات من القرن الماضى، تعد إحدى المقدمات التى أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، وكان لهذه الأزمة صداها على مصر، وقد عالجها الأديب العالمى نجيب محفوظ فى واحدة من رواياته الشهيرة، هى رواية «القاهرة الجديدة» التى تحولت بعدها إلى فيلم «القاهرة 30»، وتحكى عن المعاناة التى كان يواجهها خريجو الجامعات فى سبيل الحصول على وظيفة.
تواجه بطل الرواية «محجوب عبدالدايم» مع التحول الخطير الذى حول الوظائف إلى «سوق»، وباتت تخضع للبيع والشراء، فمن يريد الحصول على وظيفة، عليه أن يدفع الثمن، والبائع فى كل الأحوال أحد الكبار من أصحاب المناصب الكبرى، أو أحد المتنفذين والمتنفذات إلى صاحب المنصب. حاول ابن قريته «سالم» أن يدله على الطريق الذى يستطيع من خلاله الحصول على وظيفة.
حوار آسر، صاغه صلاح أبوسيف وعلى الزرقانى ووفية خيرى، فى فيلم «القاهرة 30»، يدور بين «سالم» و«محجوب» والأول يدله على طريق الوظيفة، قال «سالم»: «المطربة المشهورة الآنسة دولت عاملة تسعيرة معروفة.. الدرجة التامنة 20 جنيه.. السابعة 30 جنيه.. السادسة 40 جنيه.. الدفع مقدم.. دايرة اختصاصها السكة الحديد، مصلحة التليفونات، شركة الكهربا، السميعة والمعجبين كتير».. «محجوب»: «بس طبعاً حضرتك عارف ظروفى.. أنا مقدرش على شروط دولت هانم».. «سالم»: «طيب عبدالعزيز بيه راضى.. تسمع عنه؟».. «محجوب»: «طبعاً أشهر من نار على علم».. «سالم»: ده راجل ليه نفوذ كبير فى وزارة الأشغال.. بس نظير أتعابه هياخد نص مرتبك لمدة سنتين.. «محجوب»: «أنا موافق.. راجل بيشكك، دلنى عليه أبوس إيدك».. «سالم»: «لا.. لازم تستنى شهر ونص عقبال ما يرجع».. «محجوب»: «يرجع؟! يرجع منين؟!».. «سالم»: «من الحجاز.. عبدالعزيز بيه راجل صالح جداً ويعرف ربنا كويس جداً».
انتعشت عملية بيع الوظائف خلال الأزمة المالية العالمية التى كانت لها تداعياتها على مصر، فكان للوظيفة ثمن لا بد أن يدفعه مَن يريد التعيين، وإلا كان مصيره إلى الشارع حتى ولو كان خريج جامعة، وقد دفع محجوب عبدالدايم الثمن عندما أتيح له ذلك، دفعه لواحد من المتنفذين الذى أصبح فيما بعد وزيراً للمعارف، إن لم تخنى الذاكرة.
الأصل فى المسألة، كان الواسطة المدفوعة مالياً فى أوقات، والواسطة غير المدفوعة فى أوقات أخرى، مثلما تلاحظ فى فيلم «العزيمة»، الذى يعالج أوضاع مصر فى حقبة الثلاثينات أيضاً وتداعيات الأزمة المالية العالمية عليها، إذ توسط الباشا لتعيين «محمد أفندى» موظفاً فى شركة يملكها باشا صديق له. فى كل الأحوال ظلت الواسطة طريقاً إلى الوظيفة عبر عصور مختلفة فى مصر، خصوصاً الوظائف التى تدر دخلاً كبيراً، ولم تعد الواسطة مدفوعة بشكل مالى مباشر، كما حكى نجيب محفوظ فى رواية «القاهرة الجديدة»، بل أصبحت الواسطة «تبادل جمايل» أو «تبادل مصالح» بالأحرى، يحكمها مبدأ «نفع واستنفع»، وتحت هذا العنوان، أصبحت بعض الوظائف تدار تحت شعار: «تراعينى قيراط أراعيك قيراطين».