بقلم: د. محمود خليل
لست بحاجة إلى أن أُحدِّثك عن النعم الكثيرة التى أنعم الله تعالى بها على نبيه سليمان، حين جعله مَلكاً على بنى إسرائيل، وقد مكث النبى على كرسى الملك 20 عاماً متصلة، حتى جاء يوم تعرَّض فيه لامتحان عسير، فقد فيه مُلكه فجأة، وكان السر فى ذلك غياب العدل عنه فى لحظة وجد فيها نفسه منحازاً لهواه فظلم بريئاً.
يحكى «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ» أن السبب فى ذهاب مُلك سليمان واحدة من زوجاته كان النبى يحبها حباً كبيراً ويعتبرها أبرَّ نسائه، واسمها «جرادة». لم يكن سليمان يأتمن على خاتم الملك أحداً سواها، وكان هذا الخاتم سر الإرادة العلوية التى تؤازر النبى فتقضى له ما يريد، وكان يخلعه من يده كلما دخل الخلاء احتراماً لقدسيته.
وقد حدث يوماً أن كانت هناك قضية سوف يحكم فيها نبى الله سليمان بين شقيق «جرادة» وخصم آخر، وكانت الزوجة تعلم مقامها عند زوجها، فقالت له، كما يحكى «ابن الأثير»: «إنَّ أخى بينه وبين فلان حكومة، وأنا أحبُّ أن تقضى له، فقال: أفعل، ولم يفعل، فابتُلى». وقد حدث أن دخل الخلاء فى يوم وترك خاتم الملك مع «جرادة» كما تعوَّد، فشاء الله أن يخرج الشيطان فى صورته فحسبته الزوجة «سليمان» وأعطته الخاتم، وخرج «سليمان» بعده فطلب الخاتم فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا، وبقى الشيطان أربعين يوماً يحكم بين النَّاس.
خرج «سليمان» من هذا المشهد تائهاً لا يدرى ماذا يفعل، وبدأ بنو إسرائيل يفطنون إلى أن الجالس على العرش ليس «سليمان» الذى يعرفونه، بل شخص آخر، فهُرعوا إلى التوراة فنشروها وأخذوا يقرأون فيها، فطار الشيطان من بين أيديهم، وألقى خاتم الملك فى البحر، فابتلعته سمكة، ثمَّ إن «سليمان» قصد صياداً وهو جائع فاستطعمه وقال: أنا سليمان، فكذَّبه وضربه فشجَّه، فجعل يغسل الدم، فلام الصيادون صاحبهم وأعطوه سمكتين إحداهما التى ابتلعت الخاتم، فشقَّ بطنها وأخذ الخاتم، فردَّ الله إليه مُلكه، فاعتذروا إليه، فقال: لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم.
هكذا عاش نبى الله «سليمان» الابتلاء، وكان السر فيه عدم التزامه بمسار العدل حين اتبع هواه وحكم لصالح شقيق زوجته التى يحبها، ففقد ملكه، وكأن العدل كان سر القوة العلوية التى تجد رمزها فى القصة «خاتم المُلك». فخاتم الملك هو ببساطة «العدل» الذى رفع «سليمان» فوق العرش من جديد، حين أدرك أنه ظلم، وتاب وأناب إلى الله تعالى. يقول «ابن الأثير» إن سليمان مكث فى الحكم 20 سنة جديدة بعد الـ20 سنة الأولى التى قضاها على عرش بنى إسرائيل لما عاد إلى «العدل» واستغفر ربه فأعطاه الله تعالى المزيد من معطيات القوة والسيطرة.. قال تعالى: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لَّا يَنبَغِى لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ».