توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العودة إلى إسحق رابين

  مصر اليوم -

العودة إلى إسحق رابين

بقلم : نديم قطيش

لم تنجحْ ثلاثةُ عقودٍ مرَّت على اغتياله في محوِ راهنية رئيس الوزراءِ الإسرائيلي إسحق رابين. المكانةُ شبهُ الأسطوريةِ التي احتلَّها في معسكر السلام وأدبياته تترسَّخ أكثر في خضم التداعيات الكارثية لهجوم «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والحرب التي تلته.

فهل «رابين كانَ على صواب»، حسب اللافتات التي رفعها نحو 150 ألف شخص ليلة السبتِ الفائت في الميدان الذي حمل اسمَه؟ ستظلّ الإجابة عن هذا السؤال رهينةَ الصّراعات الداخلية الإسرائيلية، التي أفرزت تقاطعاتِها لحظة الاغتيال نفسها. وسيظلّ الانقسام حول رابين جزءاً من الانقسام حول فكرتي الأمن والديمقراطية، وعمَّا إذا كان بوسع إسرائيل اليوم أن تحميَ نفسها من أخطار الخارج من دون أن تتآكل من الداخل.

بيد أنَّ هذا التجمع الحاشد يضعنا أيضاً، نحن والإسرائيليين، أمام سؤال آخر، لا بشأن ما مثّله رابين في عام 1995، بل بشأن ما يعنيه إرثُه في منطقة تعيش لحظات تحول جذرية بفعل الحرب المدمّرة، وانهيار إطار الدولتين، وتصلّب مواقف جميع أطراف الصراع.

لم يكن رابين حمامةَ سلام منذ البدء، بل صقر عسكري وأمني وصلَ في الشطر الأخير من حياته إلى عملية أوسلو. شكّلت الانتصارات العسكرية الإسرائيلية، لا سيما حرب 1967، نظرتَه إلى العالم، واشتهر بقسوة السياسات التي اعتمدها في الضفة الغربية، مُعيداً العمل بالاعتقال الإداري وهدم المنازل. قاومَ المفاوضاتِ المباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية حتى قبل شهرين من حفل البيت الأبيض عام 1993.

مثَّل انتقال رابين إلى السلام إدراكاً براغماتياً لمحدودية القوة العسكرية في إدارة الصراع، من دون أن ينطويَ على تحوّل آيديولوجي بعيد المدى. فهو عايش من كثب التهديد الديموغرافي والأخلاقي الذي تواجهه إسرائيل إن استمرت في احتلال الأراضي الفلسطينية، وفهم الأثر السلبي لذلك على هوية إسرائيل دولةً يهوديةً وديمقراطيةً في آن. مع اندلاع الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينات، التي واجهها حينها وزيراً للدفاع بسياسات قمعية، تبيّن له أنَّ القمع لا يستطيع كسر إرادة الفلسطينيين ولا تحقيق الأمن المستدام. وحين عاد إلى رئاسة الحكومة عام 1992، بات مقتنعاً أنَّ التسوية السياسية، من موقع القوة، أصبحت ضرورة استراتيجية، وليست ترفاً سياسياً. لذلك دعم المفاوضات السرية التي أدّت إلى اتفاق أوسلو، مستفيداً من الفرصة التي وفرتها الحرب الباردة لحل النزاعات الإقليمية. ورأى في الاعتراف المتبادل مع منظمة التحرير وسيلة لفكّ الاشتباك واحتواء الصراع ضمن حدود يمكن التحكم بها.

وإذ نُعيد النظرَ اليوم في الذكرى الثلاثين لاغتيال رابين، تتكشّف لنا ملامح انقلاب مزدوج، إسرائيلي - إيراني، أطاح المسارَ الذي مثّله اتفاق أوسلو. ففي داخل إسرائيل، قاد اليمين المتطرّف حملةَ شيطنة ضد رابين انتهت باغتياله على يد اليهودي المتشدد يغال أمير، لتبدأ بعدها سلسلة حكومات يمينية عملت منهجيّاً على تفكيك «أوسلو» من الداخل، عبر توسيع الاستيطان، وتفريغ السلطة الفلسطينية من أي مضمون سيادي، وتحويل «الحكم الذاتي» إلى وظيفة إدارية بلا أفق سياسي. ومن خارج إسرائيل، وبموازاة نهاية الحرب العراقية - الإيرانية، بدأت طهران بتعزيز تصدير نموذجها الثوري إلى المشرق، فوجدت في القضية الفلسطينية بوابةً مثاليةً لبناء نفوذ إقليمي عابر للحدود. عبر دعمها لحركتي «الجهاد الإسلامي» و«حماس»، خصوصاً بعد توقيع «أوسلو»، أعادت إيران عسكرة الصراع، وموضعته داخل مشروع إقليمي مضاد لنهج التسوية وقواها العربية والإسلامية. ومع تصاعد العمليات الانتحارية، وتآكل الثقة داخل الشارع الإسرائيلي، تلاقت مقولة «لا شريك فلسطيني» مع سطوة المستوطنين، بينما تحوّلت فلسطين إلى ساحة تموضع إيرانية.

من ضفتين متعاكستين، انقضّ اليمين الإسرائيلي و«محور المقاومة» على لحظة رابين، كلّ بطريقته، حتى انتهت الدولة الفلسطينية إلى فكرة مهجورة، والسلطة إلى جهاز هشّ، والقضية إلى ورقة في صراع المحاور.

لكن ذكرى رابين، تستعاد اليوم، في لحظة يبدو فيها كلّ من الاحتلال والمقاومة بلا أي أفق حقيقي. إنَّها، في العمق، لحظة استحضار لإمكانية أن يشكّل الواقع الراهن، رغم الدم والدمار، بداية للانقلاب على الانقلاب.

فبإزاء تراجع قدرة إيران على توجيه المسار الفلسطيني، بعدما استنفدت أدواتها ودخلت في مأزق داخلي وإقليمي خانق، ومع اصطدام اليمين الإسرائيلي بجدار عملاق من العجز السياسي، ولو في ذروة أعلى درجات التفوّق العسكري الإسرائيلي، يعود تيار الاعتدال والسلام والتسوية إلى موقع الفعل. القناعة الأكثر رسوخاً اليوم هي أنَّ الاستقرار الإقليمي لا يمكن أن يقوم على معادلة احتلال دائم، ولا على إدارة أبدية للصراع كأمر واقع، بل على إعادة تعريف شروط التسوية، وتثبيت الحلّ السلمي كأفق وحيد للمنطقة.

قد يبدو السلام بعيداً الآن، وهو بعيد على الأرجح. بيد أنَّ التحدي اليوم هو تحديد ما يمكن فعله كي لا يُغلق باب السياسة نهائياً. التفكير في رابين اليوم هو التفكير في الشكل الممكن لسياسة عقلانية تتجاوز انسداد الأفق بين المتصارعين، وإعادة إعمار البنية السياسية التي يمكن أن تولد فيها فرصُ السلام من جديد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العودة إلى إسحق رابين العودة إلى إسحق رابين



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt