توقيت القاهرة المحلي 08:41:59 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الاستباقية السعودية... ولحظة التحول للاقتصاد العالمي

  مصر اليوم -

الاستباقية السعودية ولحظة التحول للاقتصاد العالمي

بقلم : يوسف الديني

لم يكن الاقتصاد السياسي في أي مرحلة من التاريخ بعيداً عن لعبة القوة، ولا عن إعادة تشكيل موازين العالم، لكن ما نشهده اليوم مختلف من حيث السرعة والتداخل، فالثورات التكنولوجية والبيئية والعسكرية تتقاطع لتصنع نظاماً جديداً تتحرك فيه الدول بين صعود وتراجع؛ وفقاً لمدى استعدادها للتكيف مع هذه التحولات. في هذا السياق، تبدو السعودية في موقع استثنائي، إذ لا تكتفي بالتأقلم، بل تسعى إلى صياغة مستقبلها وموقعها من خلال «رؤية 2030» التي جعلت الاستباق والابتكار قاعدة في إدارة الإمكانات والمكانة، وهي تتمحور حول الاستثمار في الإنسان السعودي وازدهاره.

يشهد العالم انتقالاً تاريخياً من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى بدائل نظيفة، مثل الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر والرياح. هذا التحول ليس جديداً في جوهره، فقد عرف القرن التاسع عشر ثورة الفحم، ثم شهد القرن العشرون ثورة النفط، لكن الجديد هو طابعه الكوني المرتبط بالضغوط البيئية والسياسية لمكافحة التغير المناخي. وبينما تضع أوروبا خططاً لعدم الاعتماد على النفط بشكل كلي، وتضخ الصين استثمارات هائلة في البطاريات والسيارات الكهربائية، وتنافس الولايات المتحدة على ريادة الهيدروجين، يظل النفط أساسياً في الصناعات والبتروكيماويات. هنا تظهر السعودية برؤية متوازنة ومختلفة، فهي لم تنتظر حتى يصبح التحول متطلباً، بل تعاملت مع التحديات المقبلة بشكل استباقي، حيث أطلقت مشاريع كبرى، مثل «نيوم»، و«أوكساغون»، في مجال الهيدروجين الأخضر، لتتحول من مجرد مصدر للطاقة التقليدية أو «المستنفذة» إلى لاعب رئيسي في سوق الطاقة المستدامة.

التحول في مجال الطاقة ليس مجرد تغيير في المصادر، بل ثورة اقتصادية تشبه الثورة الصناعية. فمن يملك التكنولوجيا يملك أدوات النفوذ، كما هي الحال مع وقود القرون المقبلة «البيانات»، ومثلما كانت السيطرة على خطوط النفط والغاز في القرن العشرين أداة سياسية وعسكرية. واليوم سيصبح امتلاك تقنيات البطاريات والهيدروجين سلاحاً استراتيجياً. التاريخ يثبت أن الثورات الصناعية دائماً ما أعادت تشكيل موازين القوى: بريطانيا بالفحم والآلة البخارية، وأميركا بالنفط والكهرباء، والصين اليوم بالطاقة الخضراء. والسعودية تدرك أن موقعها يجب أن يكون متقدماً في هذا السباق، لذا تبنّت مبادرتي «السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر»؛ لبناء شبكة نفوذ وشراكات نوعية تعزز من مكانتها التي تأملها، بصفتها مركزاً لنقطة جذب وحوار عالمي حول المناخ والتنمية.في الوقت ذاته، تتغير سلاسل الإمداد العالمية. فجائحة «كورونا»، ثم الحرب في أوكرانيا أعادتا تشكيل خريطة الاقتصاد السياسي، خصوصاً في تجلياته العولمية. لم تعد الدول الكبرى تثق بالاعتماد على سلاسل بعيدة، فبرزت سياسات مثل «إعادة التوطين»، و«القرب من الأسواق». الهند تطرح نفسها بديلاً عن الصين، والمكسيك تستفيد من قربها من أميركا، وأوروبا تبحث عن شركاء في المتوسط وأفريقيا. العالم يتَّجه نحو التكتلات والشركات المستدامة لا الشبكات المفتوحة. في هذا السياق، تقدم السعودية نفسها بصفتها محوراً لوجيستياً عالمياً بفضل موقعها الجغرافي بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، ومشاريعها مثل «ممر الملك سلمان البري»، والمواني الجديدة والمتجددة، بهدف أن تكون نقطة وصل مركزية في التجارة العالمية.

في الجانب العسكري، التحولات الاقتصادية ليست بمعزل عن الهواجس الأمنية. العالم يعيش سباق تسلح جديداً؛ الحرب الروسية الأوكرانية أعادت عسكرة أوروبا، والصين تزيد إنفاقها لموازنة الولايات المتحدة في آسيا، وواشنطن تعيد نشر قواتها وتحالفاتها. والتاريخ يخبرنا أن كل ثورة اقتصادية رافقتها عسكرة موازية: الثورة الصناعية أعقبتها الحروب النابليونية، والثورة النفطية رافقتها الحربان العالميتان والحرب الباردة، واليوم تأتي ثورة الطاقة الخضراء في ظل سباق محموم على التسلح. السعودية من جانبها تُعزز قدراتها الدفاعية عبر صفقات تسليح نوعية، واستثمارات في الصناعات العسكرية المحلية، ومبادرة المحتوى المحلي، بما يعكس إدراكها أن حماية الموارد وتحصين المكانة شرطٌ لمراكمة القوة وتعزيزها.

هذه التحولات الأربعة تتقاطع لتحدد من سيصعد ومن سيتراجع في هذا العالم شديد السيولة. أوروبا تواجه أزمة طاقة وتحديات ديمغرافية، والصين تسابق الزمن لتفادي فخ الشيخوخة الاقتصادية، والولايات المتحدة لا تزال الأقوى عسكرياً وتكنولوجياً، لكنها تعاني من تحديات داخلية وهويّاتية تهدد تماسكها، إضافة إلى استراتيجيتها المرتبكة في الانسحاب من المنطقة والبقاء فيها. في المقابل، تبرز قوى صاعدة، مثل السعودية والهند، بفضل استثماراتهما في التكنولوجيا والبنية التحتية، وقدرتهما على الجمع بين موارد الطاقة التقليدية والبديلة. هذا «الهجين الذكي» بين القديم والجديد هو ما يمنح ميزة تنافسية في عالم سريع التحول.

وسط هذه اللوحة المعقدة، تبدو الرياض دولة لم تكتف بالدفاع عن موقعها المتميز، بل تبادر إلى إعادة تعريفه وفق الشروط والتحديات الجديدة.

والحال أن «رؤية 2030» ليست مجرد خطة اقتصادية فحسب، بل هي مشروع فلسفي عميق لإعادة صياغة العلاقة بين الثروة والمكانة والإنسان والمقدرات. فهي تطرح السعودية بوصفها قوة استثمارية وتكنولوجية وبيئية ولوجيستية في آن واحد. عبر تنويع الاقتصاد، والاستثمار في الطاقة المتجددة، وبناء مراكز جذب صناعية ولوجيستية، وتعزيز القدرات الدفاعية، وضعت المملكة نفسها في موقع يمكنها من التعامل مع كل التحولات مجتمعة. ولذلك ليس من قبيل المديح أو المبالغة أن نصف السعودية في زمن الرؤية بأنها «الدولة الاستباقية» الأكثر بُعداً عن ردود الأفعال، وهذا ما يؤهلها بضمان موقعها وسط التنافس المحموم بين القوى الكبرى.

خلاصة القول، إن الاقتصاد السياسي للعالم يدخل مرحلة انتقالية تشبه المخاض التاريخي، هناك من سيتراجع لتأخره في الاستجابة، وهناك من سيصعد لامتلاكه رؤية استباقية واقعية قادرة على التكيف والمراجعة والاختبار.

المملكة اليوم بفضل رؤيتها الطموحة ومشروعها التحولي الشامل تقف في مصاف الدول الصاعدة بقوة، وهي لا تراهن فقط على النفط أو على الطاقة الخضراء، بل على مزيج استراتيجي يجعلها في قلب التحولات، فالمستقبل ليس لمن يملك الموارد فقط، بل لمن يحسن إدارتها في لحظة تاريخية تتقاطع فيها السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا. الرياض تبدو اليوم أكثر استعداداً من أي وقت مضى لتكون في طليعة هذا المستقبل الجديد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستباقية السعودية ولحظة التحول للاقتصاد العالمي الاستباقية السعودية ولحظة التحول للاقتصاد العالمي



GMT 08:41 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

الطبع فيه غالب

GMT 08:38 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مصر في مواجهة سيناريو «العبور بلا عودة»

GMT 08:30 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مَن يلقى سلاحه يُقتل

GMT 08:24 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

تركيا والقبعات المتعددة

GMT 08:21 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

كارثة وفاة سباح الزهور

GMT 08:19 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

عبد الوهاب المسيرى.. بين عداء إسرائيل والإخلاص للوطن

GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt