توقيت القاهرة المحلي 13:17:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصعود السعودي وصناعة الاستقرار الإقليمي

  مصر اليوم -

الصعود السعودي وصناعة الاستقرار الإقليمي

بقلم : يوسف الديني

في عالم تتقاطع فيه الانقسامات الجيوسياسية، وانحسار النظام الأحادي القطبي، وصعود قوى جديدة، تبرز السعودية بوصفها قوة صاعدة تسعى ليس فقط إلى تثبيت مكانتها، بل إلى إعادة تشكيل ملامح الاستقرار الإقليمي بوسائل جديدة وخطاب مختلف.

هذا الدور الذي تتبناه الرياض اليوم لم ينبع من فراغ، بل هو نتاج تحولات داخلية عميقة، ومراجعة شاملة لعلاقاتها التقليدية وتحالفاتها الاستراتيجية، ضمن رؤية متكاملة لإعادة تعريف مكانتها بصفتها دولة محورية في نظام دولي آخذ بالتغير.

المملكة التي لطالما مثّلت حجر زاوية في معادلات الأمن والطاقة في الشرق الأوسط، وجدت نفسها خلال العقد الماضي، أمام جملة من التحديات التي فرضت عليها إعادة هندسة مقاربتها للداخل والخارج. على المستوى الداخلي، جاءت «رؤية 2030» بوصفها إطاراً شاملاً لإصلاح اقتصادي واجتماعي يقوده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، هدفه تقليص الاعتماد على النفط، وجذب الاستثمارات، وتحديث البنية المجتمعية والثقافية للدولة، بما يجعلها أكثر تنافسية وانفتاحاً. غير أن هذا المشروع الطموح سيتعزز أكثر عندما تكون البيئة الإقليمية مستقرة، وهو ما أعاد صياغة أولويات السياسة الخارجية السعودية.

ورغم ما قيل ويقال عادة مع كل نقطة تأكيد على التحالف التاريخي بين الولايات المتحدة والمملكة، فإنَّه لم يعد بإمكان السعودية الاعتماد فقط على الضمانات الأميركية التي شكّلت لسنوات طويلة أساس التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن. فخلال الإدارات الأميركية المتعاقبة، خصوصاً في عهدي باراك أوباما ثم جو بايدن، بدا واضحاً أن الشرق الأوسط لم يعد في صدارة أولويات السياسة الخارجية الأميركية، مقابل التركيز الزائد على الصراع مع الصين وروسيا. هذا الانكفاء النسبي، مقترناً بتذبذب السياسات تجاه ملفات حساسة، مثل إيران والتدخلات السيادية، دفع المملكة إلى اتخاذ سياسة خارجية أكثر استقلالية ومرونة، وسعت إلى تنويع شركائها على المستوى الدولي. الصين باتت الشريك التجاري الأول، والتقارب معها شمل ملفات استراتيجية مثل البنية التحتية، والتكنولوجيا، والتعاون العسكري المحدود. وفي الوقت ذاته، لم تلغِ السعودية ارتباطها الأمني الوثيق بالولايات المتحدة، بل حاولت أن تعيد تعريف هذا الارتباط عبر مفاوضات دفاعية ملزمة، تضمن أمن المملكة مقابل التزامات سياسية واقتصادية أوضح من واشنطن.

أدّت هذه المقاربة الجديدة إلى مشهد خارجي سعودي أكثر تنوعاً، تحولت فيه المملكة إلى فاعل دبلوماسي نشط على مختلف الجبهات. من استضافة قمة جدة للسلام، إلى التوفيق في تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، مروراً بدور الصين في إنهاء القطيعة مع طهران، وسعي المملكة لتكون حلقة وصل لا خصماً في النزاعات الكبرى. لم تعد الرياض تكتفي بلعب دور الموازن الإقليمي، بل أصبحت ترى في نفسها قوة صاعدة ذات مسؤولية، تسعى إلى تسوية النزاعات لا إشعالها، وبناء الاستقرار لا الارتهان لمحاور متقلبة.

هذه المقاربة تجلّت أيضاً في الموقف من حرب غزة، فالسعودية عزّزت موقفها التاريخي في نصرة القضية الفلسطينية العادلة ضد وحشية إسرائيل عبر قيادة تحالف دبلوماسي دولي يدعو لإقامة دولة فلسطينية تجسيداً لنقطة ارتكاز مركزية في الرؤية السعودية الجديدة، وهي أنه لا استقرار في المنطقة من دون عدالة للفلسطينيين، ولا اتفاقيات من دون أفق سياسي واحد يفضي إلى حل الدولتين، وقبل كل شيء توقف آلة الحرب ضد المدنيين والأبرياء، الأمر الذي بدا اليوم محل إجماع في العالم، وشكّل عامل ضغط يتنامى على الإدارة الأميركية، وبحسب منصة «أكسيوس» نقلاً عن مسؤولين في البيت الأبيض بالأمس، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يشعر بالإحباط من الحرب الدائرة في غزة، وبانزعاج من صور معاناة الأطفال الفلسطينيين. وقد طلب من مساعديه أن يُطالبوا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإنهاء الأمر، وبعيداً عن هذا الانزعاج المتأخر وغير المجدي، فإن العالم اليوم يتحد أمام حرب ضد الأبرياء هي الأكثر دموية في تاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، حيث أسفرت عن مقتل أكثر من 50 ألف شخص من بينهم آلاف الأطفال.

جزء من الصعود السعودي يستند إلى نجاحات كبيرة خلال السنوات الماضية في تكريس استراتيجية القوة الناعمة، وعلى تموضعها بوصفها قوة استقرار لا مواجهة. من قمم جامعة الدول العربية، إلى تحركاتها في «مجموعة العشرين»، ومن عضويتها في المنتديات الاقتصادية الصاعدة مثل «البريكس»، إلى حضورها في منظمة شنغهاي، تعمل السعودية على إعادة تعريف ذاتها بصفتها قوة دولية في صعود مستمر، تمتلك قرارها وتتحكم في أدواتها، ومنها اليوم التحشيد لمنطقة مستقرة، وحل عادل لمأساة فلسطين.

لا يمكن فهم الصعود السعودي الذي سُلطت عليه الأضواء منذ زيارة ترمب الأخيرة إلى الرياض، خصوصاً في الصحافة الغربية، إلا بوصفه جزءاً من مشروع أشمل لإعادة تشكيل المنطقة. فبينما يتراجع النموذج الإيراني تحت وطأة العقوبات والانكفاء الإقليمي، وبينما تغيب المشاريع الشمولية برافعات آيديولوجية، تبرز الرياض بوصفها صوتاً مختلفاً، أكثر واقعية من الشعارات، وأكثر تصميماً من التحالفات التقليدية، وأكثر وعياً من أن تُركن لأي طرف من دون حساب. إنها لحظة تاريخية تُختبر فيها قدرة المملكة على صناعة التوازن من قلب الفوضى، وترسيخ الاستقرار بوصفه رافعة للتحول الوطني الذي يكون المواطن والمواطنة عماده الأول.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصعود السعودي وصناعة الاستقرار الإقليمي الصعود السعودي وصناعة الاستقرار الإقليمي



GMT 10:24 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل سوريا بين إسرائيل… وأميركا وتركيا

GMT 10:22 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

تركيز إسرائيل على طبطبائي… لم يكن صدفة

GMT 10:20 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

خطورة ترامب على أوروبا

GMT 10:15 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

المفاوض الصلب

GMT 10:12 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مشكلتنا مع «الإخوان» أكبر من مشكلات الغربيين!

GMT 10:07 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

إعلان الصُّخير... مِن «دار سَمْحين الوِجِيه الكِرامِ»

GMT 10:04 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

اصنعوا المال لا الحرب

GMT 09:57 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

توسعة الميكانيزم... هل تجنّب لبنان التصعيد؟

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt