توقيت القاهرة المحلي 12:33:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حرب الاسترداد الثقافية

  مصر اليوم -

حرب الاسترداد الثقافية

بقلم :محمد الرميحي

حولنا حروب إما ساخنة وإما باردة، إما بينية وإما أهلية وإما تهديد بحروب، إلا أن الأخطر والمسكوت عنها هي الحرب الثقافية. وهي حرب طويلة وبعضها خفيّ كما أن بعض المشاركين فيها، وهذا هو الأهم، يدخلونها من دون علمهم أنها حرب. هي من أشرس الحروب، ومردودها السلبي يقع على الشرائح الأكثر بُعداً عن ساحتها.
أمبرتو إيكو، المفكر الإيطالي، له رواية تُرجمت إلى العربية بعنوان «جزيرة اليوم السابق»، وهي رواية إيحائية يستطيع القارئ أن يفسرها بالطريقة التي يُفهم مقاصدها. تروي أن سفينة متعطلة على بُعد من جزيرة، يرغب مَن بالسفينة في الوصول إلى الجزيرة التي تظهر من بعيد، ولكنّ ذلك الوصول يصبح شبه مستحيل لأن السفينة معطّلة. وكلٌّ منا يبحث عن جزيرته.
في جزيرة أمبرتو إيكو محاولة لاستدعاء الماضي واعتباره جغرافيا ثابتة، مما يبقيه في عزلة دائمة. الجهل المطبق الذي يسود البنية الفكرية المنتجة للمتطرفين الجدد باسم الإسلام الذين يبحثون عن جزيرة رُسمت في أذهانهم أو رسمها قادتهم، أن هناك في مكان ما «عصراً ذهبياً» تجب العودة له، وهذه العودة يقف أمامها عدد من العقبات تبدأ بالجيران، ولا تنتهي بالدول «الكافرة»... وعليه، من الواجب شن حرب ضروس على كل الآخيرين.
عند دراسة آثار أبو الأعلى المودودي وسيد قطب مروراً بحسن البنا وعدد كبير من «الصحويين»، تجد أن البحث عن «جزيرة اليوم السابق» هي محور «الدعوة»، والطريق إليها يبدأ بالشكل (الملابس والمظهر)، ولا ينتهي بحمل السلاح ضد الآخر. تراكم عدد من العناصر ليس أقلها الجهل بالتاريخ الإسلامي، الذي هو تاريخ بشر فيه العديد من الإيجابيات كما فيه من السلبيات، مصحوباً بجهل واضح بمسار العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويحمل تصوراً أسطورياً للماضي، الذي يجب أن يُكرَّر بحذافيره في المستقبل، وكل من لا يرى تلك الرؤية هم بالضرورة «خارج الملة». لهذا فإن رفض الآخر وتهميشه وتسهيل الاعتداء على حرمته وحتى روحه، من المباح، لأن هناك يقيناً ثابتاً ومصفوفة فكرية صلبة لا تقبل النقاش أو المزاحمة، على عكس المنهج الذي اعتمدته المدرسة العقلية لدى مفكرين إسلاميين سابقين والقائل «أعظم الناس يقيناً أكثرهم جهلاً».
الشحن الانفعالي الذي استمر في المناهج الدراسية والكتابات وحتى في الإعلام يشلّ وجود أي عقل ناقد خارج منظومة السائد من التفكير، ويجتهد أهل التطرف لعزل وحرب وربما قتل مَن يحمل فكراً مضاداً يشي بشيء من التنوير والاختلاف.
حتى العناوين الرمزية تم اختطافها: «حزب الله» و«الدولة الإسلامية»! تفكيك مقولات تلك المدرسة وإعادة النظر في مسلّماتها ومسمّياتها عمل ليس سهلاً، لأن طائفة كبيرة من الجمهور قد رسخ في ذهنها أن ما يقوله «شيوخ» تلك المجاميع هو الصحيح ولا صحيح خارجه. حتى مفهوم «الشيخ» تَحوّل في عصرنا ليُلصَق بمن يستحق من القلة ومن لا يستحق من الكثرة، إلى أن زاد الماء على الطين، كما يقول المثل.
ينصرف البعض إلى تعريف التطرف بالعنف، هو صحيح، ولكن التطرف لا يقتصر على العنف المادي أو الإيذاء البدني، فهناك تطرف معنوي وتطرف لفظي، كما أن هناك التطرف الظاهر والتطرف المبطن، وأخطر أشكال التطرف هو التطرف الثقافي، والتطرف الثقافي ينتج بسبب صرامة وجمود طرق التفكير في المجتمع وفرض منهج محدد في التفكير وتفسير الظواهر، ومن يخرج من «يقينية» ذلك التفكير يقع عليه الجرم الذي يقود إلى النفي المجتمعي أولاً، ومن ثم توقيع العقاب المادي.
إذن نحن أمام معركة تتخطى الحديث عن «جزّ رقاب» مَن يعدهم البعض مخالفين، وأكبر من إطلاق الرصاص أو قتل المارة في الشوارع... معركة تخليص الفكر العربي المعاصر من البحث عن «جزيرة اليوم السابق» والحديث الجاد عن الوصول إلى «جزيرة اليوم اللاحق». لم يعد المتطرفون عبئاً على أنفسهم، فقد أضافوا القتامة على حَمَلة دين كامل وفرضوا أجندتهم بأفعالهم المتطرفة، وجرَّوا ردود فعل من آخرين مليئة بالشكوك، وتصاعدت ردّات الفعل من ضعيفي الوعي حتى تكاد تشعل الحروب بين الشعوب والأقوام.
معركة الاسترداد الثقافي هي في الأساس معركة وعي، والوعي هو أول طريق الخلاص من التطرف وما يتبعه من إرهاب، ولعلّنا مطالبون جميعاً بوضع حدود بين العقائد والعبادات وبين المصالح المرسلة والمعاملات.
والبدء بفهم تاريخنا العربي والإسلامي كما هو من دون زيف أو انتقاء. لقد مضى علينا وقت طويل في تأكيد الانتقاء وإخفاء العوامل الإنسانية والمصلحية بل حتى الظرفية في معظم أحداث تاريخنا، وخصوصاً ما يقال لطلابنا في المدارس، حيث يشبّون على أن لديهم الحقيقة المطلقة فيما تلقوه ولا حقيقة خارجه. ومع الأسف تم الضغط السياسي للاستفادة من هكذا فضاء لفترة ليست قصيرة. لا أدعي أن مسألة إعادة الوعي إلى الجمهور العام سهلة أو ميسّرة، ولكن المطالبة بأن نبدأ بمنهجية واضحة تقود في النهاية إلى وعي جديد، إلى جزيرة مستقبلية وليست ماضوية، إلى معرفة بالعالم الذي نعيش فيه، وبالصيرورة التاريخية وتبدل الظروف عندنا وعند الآخر. ولعل أولى أدواتنا في كل ذلك هي الشجاعة الفكرية. فليس الأهم أن نتحدث في إعلامنا ومنتدياتنا وندواتنا عن «التطرف والعنف» ولكن الأهم أن نكشف بصراحة الأدوات والمناهج التي تؤسس للعنف وأن دواء البؤساء هو برامج تنمية وليس أغنية أو ابتهالاً، وأن الوعي بأشكاله وتنوعاته المختلفة هو الطريق الأصح لمواجهة ما نراه من عوار في مجتمعاتنا، وأن تصاب نُخبنا بأرق الفلاسفة لا بانتهازية السياسيين!
الطريق ليس سهلاً في محاربة التطرف، ولن يعبّد هذا الطريق تصريح هنا وندوة فكرية هناك... التعبيد هو بالاتجاه إلى إحلال التفكير العقلي في مناهجنا ولدى مدرّسينا على كل المستويات، وفي تقديم برامج تنموية لها أهداف تستعين بأثمن ما لدينا من رأس مال وهو البشر.
والقوى المضادة ليست سهلة العريكة؛ فهناك مال يُستثمر في استمرار الفكر المتطرف، وهناك دول لها أجندات في الاستفادة من ذلك التطرف، وهناك فيما بيننا أشخاص ومدارس تتكسب من هذا الفكر، بعضها يسعى للاستفادة وبعضها مع الأسف كخراف القطيع. لعل أول ما يتوجب أن نسترده هي إعادة العمل بالتفكير العقلي الذي له جذور في ثقافتنا علينا الاستعداد لخوض حرب إحيائها.
آخر الكلام:
التفكير القطبي «الأحادي» الناتج من الإرث الاجتماعي والتعليمي يخلِّف تشوهات في السلوك، مما يشيع وباء الكراهية وينتهي بالعنف.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حرب الاسترداد الثقافية حرب الاسترداد الثقافية



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:33 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

عمرو يوسف يتحدث عن "شِقو" يكشف سراً عن كندة علوش
  مصر اليوم - عمرو يوسف يتحدث عن شِقو يكشف سراً عن كندة علوش

GMT 22:56 2018 الثلاثاء ,24 إبريل / نيسان

إيدين دغيكو يصنع التاريخ مع روما

GMT 18:14 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

محمد هاني يتعرض لكدمة قوية في الركبة

GMT 02:04 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

اللقطات الأولى لتصادم 4 سيارات أعلى كوبري أكتوبر

GMT 16:20 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

مقتل 3 مواطنين وإصابة 4آخرين في حادث تصادم في المعادي

GMT 07:05 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أجمل ديناصور في العالم بألوان مثل طائر الطنان

GMT 06:33 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

تعرف على أسعار الحديد في الأسواق المصرية الثلاثاء

GMT 21:12 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

الأهلي يعترف بتلقي مؤمن زكريا لعرض إماراتي

GMT 00:34 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النصائح الخاصة بإدخال اللون الذهبي إلى الديكور

GMT 12:51 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد ناجي يمنح محمد الشناوي وعدًا بالانضمام للمنتخب

GMT 14:37 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الإعدام شنقًا لـ7 من أعضاء خلية "داعش" في مطروح

GMT 13:23 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"الخطيب" يدعو أعضاء الأهلي لحضور ندوته الرسمية في الجزيرة

GMT 02:07 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الدولار الأحد في السوق السوداء الأحد

GMT 17:42 2014 الجمعة ,15 آب / أغسطس

حدوث هبوط أرضي في حي الكويت في السويس
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon