توقيت القاهرة المحلي 12:01:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كي لا نفجع ببغدادي آخر

  مصر اليوم -

كي لا نفجع ببغدادي آخر

بقلم: غسان شربل

كان يومَ ترمب بلا منازع. نادراً ما أتيحَ لرئيس أن يستدرجَ العالمَ بأسره لانتظار روايته. وهي كانت مثيرةً ومشوقة. كانت لحظة قوة استثنائية في ولايته. وكان باستطاعته الإعلان عن إنجاز اشتهاه كثيرون. والقول إنَّه عاقبَ كبيرَ المرتكبين والمطلوب الأول في العالم. وإنه أنزلَ حكمَ العدالة بالرجل الذي حزَّ أعناق أميركيين وصنعَ نكبة الإيزيديين وقتلَ كثيراً من الأكراد والسوريين والعراقيين، وروَّع الأوروبيين وسجَّل رقماً قياسياً في تعدد جنسيات ضحاياه.
تحدَّث باسم أميركا القوية. أميركا القدرات الهائلة والجيش الأكثر تطوراً والاستخبارات المتكئة على التطور التكنولوجي. عن خطورة العملية والرجال الذين جازفوا. وسخر من الرجل الذي أرعبَ العالم. وحكى كيف كان يتحرك باكياً ومذعوراً، وأنه توَّج جرائمه بالتسبب في قتل ثلاثة من أطفاله. ولم يفُته التذكير بأن الذراع الأميركية الطويلة امتدت حديثاً إلى حمزة بن لادن نجل الرجل الذي أدمى الأرض الأميركية نفسها، واستهدف رموزَ قوتها ونجاحها.
لا غرابة أن ينشغل العالم بخبر مقتل أبو بكر البغدادي. إننا نتحدَّث عن رجل أثخن المنطقة والعالم. قاتل بمخيلة مسنونة. جلاد استثنائي عابر للحدود والقارات. بدَّد سنوات من عمر دولتين وشعبين ومن أعمار ملايين الناس. بزَّ أسلافه في نهر التطرف. تفوَّق عليهم في فنون القتل والترويع وإطلاق أمواج الكراهية.
ومن حق دونالد ترمب أن يحتفل. فهذا النوع من الضربات يسجله التاريخ. ولعله يقول في سره إن القتيل الذي سقط بأمر مباشر منه أشد خطورة من القتيل الذي سقط بأمر من سلفه باراك أوباما؛ وهو أسامة بن لادن. لم يسعف الحظ زعيم «القاعدة» في إعلان «دولة» وتنصيب نفسِه «خليفةً» مزعوماً. ولم يتمكن من استقطاب من وفدوا من أماكن قصيَّة بعدما خدعتهم العبارات والرايات.
منذ دخوله البيت الأبيض يقيم ترمب في العاصفة. وواضح أنه يحبُّ العواصف. قراراته مفاجئة وطريقته صادمة. راقصٌ منفردٌ لا يحب التانغو مع المؤسسات ولا مع الدول. ومع اشتداد العواصف على طريق الانتخابات جاءت هذه الهدية الكبرى. إنها ليست شبيهة بساعة الإعلان عن الخروج من الاتفاق النووي مع إيران أو فرض عقوبات قصوى عليها. ومختلفة عن فرض رسوم أطلقت حرباً تجارية مع الصين. أو التلميح بسحق الاقتصاد التركي. أو الإعلان المفاجئ عن الانسحاب من سوريا والابتعاد عن «الحروب السخيفة التي لا تنتهي».
إنها هدية لم يحصل على مثلها من قبل. هدية كانت موضع ترحيب الدول القريبة والبعيدة. صيد ثمين دفع أطرافاً كثيرة إلى المسارعة في إعلان دورها في ترتيب الوليمة. غيرت الضربة المفاجئة العناوينَ في كل مكان. المواقع التي كانت منشغلة بإجراءات عزل الرئيس أو انتقاد الانسحاب من سوريا وجدت نفسها أمام عنوان وحيد هو قتل البغدادي. ولأنه عاشق إثارة رمى ترمب تغريدة قصيرة داعياً العالم إلى انتظاره ليزفَّ إليهم النبأ بعد الفراغ من فحص الحمض النووي. لا يمكن القول إن جثة البغدادي تجرِّد خصومه من أسلحتهم، لكنها تعطيه سلاحاً بعدما كان بدأ الكلام عن أن انسحابه من سوريا هو هدية كبيرة لـ«داعش»، فضلاً عن روسيا وإيران.
سيتمكَّنُ ترمب من القول إن انسحابه من سوريا، الذي تعرَّض مرات عدة لاستدراكات تبقي قوة محدودة في أماكن محدودة، لا يعني استقالته من محاربة الإرهاب. وسيقول إنه يخوض هذه الحرب من دون إبقاء جنود منتشرين في مسارح النزاعات عرضة للثأر والأخطار. ويعترف قادة ميدانيون واجهوا «داعش» في العراق وسوريا أن الحرب مع التنظيم كانت ستمتد سنوات إضافية لولا الضربات الجوية القاصمة التي وجهها سلاح الجو الأميركي إلى معاقله ومخابئه. هذا من دون أن ننسى أن الضربات الجوية ما كانت لتكفي لولا مساهمات القوى التي خاضت معارك برية طاحنة ضد التنظيم.
لنترك جانباً الشق الأميركي من المسألة. مقتل البغدادي لا يعني مقتل «داعش» رغم أهمية قطع رأس التنظيم. وأظهرت التجارب أن هذا النوع من التنظيمات اكتسب خبرة في التكيف مع الظروف الصعبة. وأن «داعش» كان يعمل في الأعوام الأخيرة بصورة لا مركزية. ثم إن التنظيم راهن تحت الضغوط على دور «الذئاب المنفردة» في ترويع العالم وإقلاقه.
لنترك جانباً الشق الأميركي ولنتذكر أن الأهم هو ألا نفجع مرة أخرى بولادة بغدادي آخر يغرق منطقتنا في الدم وبلداننا في خراب هائل.
لا بد أن نتذكر أن «داعش» تمكن من الولادة حين تصدعت دول وتمزقت اللحمة في مجتمعات. ولد في ظل كراهيات الغلبة والإحباط والتهميش ومحاولات الاستئثار وشطب الآخر واغتيال الملامح. لنتذكر أن «داعش» ولد في العراق المتصدع. وفي سوريا المتصدعة. ولد وسط الكراهيات المذهبية. وأنه عثر على فرصته حين ساد منطق الاستباحة، وحين فتحت أبواب الحدود التركية على مصراعيها للمقاتلين الجوالين ليدخلوا سوريا ويخوضوا في دم انتفاضتها وشعبها.
المهم ألا نفجع ذات يوم ببغدادي آخر. أميركا بعيدة. إننا المسرح. والمواجهة لا تقتصر على الشق الأمني. لقد بدأ الخراب الكبير حين استولى التطرف على المناهج والمساجد وحين تخرج التلامذة من المدارس يكرهون الآخر ويعدّون كل اختلاف جريمة تستحق القتل.
كي لا نقعَ في بغدادي آخر لا حل إلا بناء الدولة العصرية التي تتسع لكل مكوناتها.
لا حل إلا بمناهج وبرامج تفتح النوافذ على العالم وتشجع على التعايش وقبول حق الاختلاف. لا حل إلا بإعادة الأمل بالمستقبل والاستقرار والازدهار وحماية الشباب من «داعش» وكل تعصب يرمي إلى شطب من لا يشاطره القراءة القاتمة للعالم.
سبح ترمب البارحة في الأضواء. كان قوياً إلى درجة الاعتراف بتلقي تسهيلات من آخرين. احتفل «جنرال (تويتر)» باصطياد الرجل الوافد من كهوف التاريخ. أما نحن فليتنا نتعلم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كي لا نفجع ببغدادي آخر كي لا نفجع ببغدادي آخر



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 17:19 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

لافروف يتهم أوروبا بعرقلة جهود السلام في أوكرانيا
  مصر اليوم - لافروف يتهم أوروبا بعرقلة جهود السلام في أوكرانيا

GMT 11:25 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

شمس البارودي تهاجم الشللية في الوسط الفني بسبب نجلها
  مصر اليوم - شمس البارودي تهاجم الشللية في الوسط الفني بسبب نجلها

GMT 06:13 2025 الثلاثاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الثلاثاء 02 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 04:43 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تدعم حظر الهواتف المحمولة في المدارس الابتدائية

GMT 02:17 2020 الأحد ,26 تموز / يوليو

فيسبوك تقضي على Zoom بعد إطلاق App Lock

GMT 19:18 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حريق محدود بـ كابل كهرباء في الطالبية بمحافظة الجيزة

GMT 17:32 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

22 لاعبًا في قائمة الزمالك لمواجهة الإسماعيلي في الدوري

GMT 14:01 2025 السبت ,01 شباط / فبراير

مقتل 18 جندياً في باكستان على يد مسلحين

GMT 10:28 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

إنفانتينو يقرب السعودية من تنظيم كأس العالم 2034

GMT 20:45 2022 السبت ,04 حزيران / يونيو

انطلاق كأس العالم للرماية الأحد المقبل

GMT 23:18 2021 الأربعاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

أبرز 5 سيارات كورية طرحت في السوق المصري لعام 2021

GMT 09:05 2021 الأربعاء ,10 آذار/ مارس

طريقة عمل الروستو
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt