توقيت القاهرة المحلي 08:41:59 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حِصَار

  مصر اليوم -

حِصَار

بقلم : بسمة عبد العزيز

ثمّة حِصاراتٌ شهيرة احتفظ بها في ذاكرتِه التاريخُ؛ منذ عصر الإمبراطورية الرومانية وإلى يومنا هذا. على سبيل المثال؛ سبق حربَ طروادة حصارٌ طويل، صَمَدت المدينة أمامه عشر سنوات ممتدة، لكنها لم تلبث أن انهارت؛ فقد استقبل أهلُها حصانَ طروادة الشهير على أنه مُبادرة سلام، فيما الجنود بداخله مُختبئين. لم يكن الحصار في حدّ ذاته سببَ السقوط والانهزام، بل كانت الخديعة والحيلة.
***
ثمَّة حصارٌ ماديٌّ فيه أسوار وعدة وعتاد، وحصار مَعنويّ؛ لا يملِك المَلموس مِن الأدوات، إذ يبدو المرءُ حرًا طليقَ الحركة، لكنه مُحاصَر داخله لا يقوى على الفعل، وينكُص عن اتخاذ أية مُبادرة؛ ولو برفع آنيةٍ أو كوب مِن على المائدة. كهذا يُحاصِر الهَمُّ والغَمُّ أغلبَنا؛ فيقوّضان الروحَ ويتركان أجسامًا جوفاءَ بلا همّة أو إرادة.
***
الاقتصاد مَجالٌ خصب مِن مَجالات الحصار؛ يحاول به الفاعل السيطرةَ على خصمِه عبر تضييق مَوارده وخَنق مَصادره وتجويعه، ومنع الاحتياجات الإنسانية عنه؛ لعله في النهاية يرضخ للشروط. إما أن يعقُب الحصارَ استسلامٌ، أو يرفض المُحاصَر أن يرفع الرايةَ البيضاء؛ فيُذيق مُحاصِره الهزيمةَ. يقول محمود درويش: حاصر حصارك لا مفر؛ والمعنى من القصيدة ألا يستسلم المرءُ، إذ بإمكانه تجاوُز العقباتِ كلها، وباستطاعته أن يعكس الآيةَ بجَلَده وإصراره؛ فيغيّر مَوازين القوة، وتميل الكفَّةُ لصالِحه.
***
حصار غزَّة مَثَلٌ حَيّ على فاعلية المُقاوَمة وصلابة المُحاصَرين؛ بعضُ الناسِ تزدهر لديهم رغبةُ الحياة، وتتكرَّس إرادةُ الاستمرار؛ بغَضِّ النظر عن بُؤس الحال، وعن اتهامات تُكَال بلا تحفُّظات مِن العدو، وكذلك مِن القريب.
***
الحِصَار في مَعاجم اللغة العربية هو المَحبَس، أي المكان الذي يُغلَق على شَخص، ويُقال حاصَروا العدوَ إذا ضيّقوا عليه وأحاطوا به. حَصَرَه المَرضُ أي منعه مِن قضاءِ حاجة يُريدها، وحَاصَرَني الخوفُ أي حبسني ومَنعني عن رغبتي. حَصِرَ صدرُه بمعنى ضاق، وحَصَرَ الْمَوْضُوعَ أي اِسْتَوْعَبَهُ بمُختلف جَوانبه. الرجلُ الحَصِر فهو كاتمُ السرّ، لا يبوح به ولا يُفشيه، أما إذا نُعِتَ رجلٌ بأنه حَصِيرٌ؛ فالقصد أنه مُمسِكٌ بخيل.
***
يمتد الحِصارُ إلى مَجالات الرياضةِ بصورٍ مُتنوّعة؛ ثمَّة مُباريات تُذاع حَصرًا على قناة أو أخرى، فتحرم القاعدةَ الواسعةَ مِن حَقّ مُشاهدتها، وثمَّة مُشجّعون يتعرَّضون للحِصارِ في الملاعب والمُدرجات، حيث تُمارَس ضدّهم أعمالُ عنفٍ مِن البشاعة بمكان.
***
في لعبةِ الشطرنج خططٌ يدبّرها اللاعبون وخطوات يحفظها المُحترفون، وترتيبات مُحكَمة يقومُون بها، والهدف في النهاية حِصار الجيش المُقابل، والتخلُّص مِن قِطَع المُنافِس، إلى أن يبقى الملكُ عاريًا، يُمكن اقتناصُه بسهولة؛ وعند هذه اللحظة تعلو ابتسامةُ النصر وجهَ اللاعبِ، وينطقُ بعد صَمتٍ طويل: "كِشّ مَلِك".
***
قد يُحاصِر واحدٌ آخر بحديثِه ويُصيِبه بالحَرَج؛ يُفند حُجَّته، ويدفعه للإقرار بخطأها، أو يُجبره على الإدلاء بقولٍ فقير المنطق والمعنى؛ تداركًا لموقفه وحفظًا لماء الوجه، فيُثمِر حصاره ويخرُج مِن الجَدل فائزًا.
***
الحصارُ لعبةٌ من ألعاب الحربِ وأحيانًا السياسة، ينتصر فيها الأطولُ نفسًا، قد يُمارَس خارجيًا وقد يبقى في الداخل. يقول نزار: يا سيّدي السلطانْ لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ لأنَّ نصفَ شعبنا.. ليسَ لهُ لسانْ.. ما قيمةُ الشعبِ الذي ليسَ لهُ لسانْ؟ لأنَّ نصفَ شعبنا.. محاصرٌ كالنملِ والجرذانْ.. إلى آخر الهوامش المُوجعة التي تجد لها مكانًا في كل عصر، فهزائم البشر لا تنتهي وموبقاتهم تبقى أبدًا متجددة.
***
كثيرًا ما نواجه حصارًا يحرمنا التعبير عن المشاعر والأحاسيس: ما لك .. ما بِك؟ لماذا تقطيبة الحاجبين؟ علام الابتسامة؟ يشارك الأقرباءُ والمَعارفُ والأصدقاء في هذا الحصار؛ لا يبيت أحدهم نيةَ سوءٍ، ولا يتعمَّد استفزازًا أو مُضايقة، لكنها عادة دَرجنا عليها وصَعُب تركُها؛ لا نقتنع أبدًا بأن مَن يريد الإفصاحَ سيفصح ولو لم يسأله أحد، وأن مَن يريد الصمتَ، والاحتفاظ بمَكنون نفسه لن يبوح ولو تلقى مئات الأسئلة.
***
مُحاصَرة الفقر. مُحاصَرة الجوع. مُحاصَرة المَرض. تلك أنواع مِن الحِصار لا يُمكن إن صَدقَت النيةُ ذمُّها، وفي مثل أهميتها مُحاصَرة سَفهِ الإنفاقِ والبَذخ.
***

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حِصَار حِصَار



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 13:35 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء
  مصر اليوم - استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt