بقلم:عزة كامل
عصفت الريح من ناحية الخلاء وحملت معها رائحة الخبز ممزوجة برائحة دخان أفران القرية، كان ظلام الفجر مخيمًا حين وضعوها فى سيارة ميكروباص، وكان الطريق يرقد فى حزن عميق، بينما تعصف بعقلها الأفكار، كان جسدها النحيل يرتعش، وأخذت تبكى كل شىء، عمرها الذى لم يتجاوز الثلاثة عشر عامًا، بكت كلبها الأعور الذى أنقذته من الموت، بكت حضن أمها الدافئ، بكت طفولتها التى سلبوها منها.
وصلت سيارة الميكروباص بعد أربع ساعات من السير إلى بيت مخدومتها التى عاينتها دون أن تلمسها، وعلى الفور أمرت زوجة البواب أن تأخذ «البت الخدامة» كما أطلقت عليها إلى الحمام لتنظفها من أوساخها، ومن القمل، وتتخلص من ثيابها القديمة وتستبدلها بأخرى جهّزتها لها فى الحمام، نفذت زوجة البواب كافة الأوامر، وزادت عليها بجعل مياه الاستحمام أقرب للماء المغلى، ولم ترحم صراخ الطفلة وتوسلاتها من هذا الماء الذى يكوى جسمها، لم يرحموها منذ خرجت من باب الحمام.
بدأت تمارس الأشغال الشاقة التنظيف والمسح وغسيل المواعين، وتحضير الطعام، لم يرحموا جسدًا ضعيفاً لا يحتمل كل هذا العمل الشاق والأشبه بالسخرة فى العصور القديمة، وفى أخر الليل ارتمت على فرشة فى المخزن لم تحمها من برودة البلاط، ولكنها غاصت فى نوم أشبه بالكابوس، هذا الكابوس الذى بلغ أكثر من ثلاثة أعوام، تستحمل فيها الإهانة والسب والضرب والتعذيب والتحرش من سيدها المراهق الصغير، لم تر أمها خلال هذه الأعوام أبدًا، والدها فقط كان يأتى كل ثلاثة أشهر، يقف على باب البيت، لا يسمح له أبدًا بالدخول، يأخذ فلوس سخرتها ويقف معها عدة دقائق يسودها صمت ووجوم وتوتر لأن هناك عيوناً كانت تراقبهما ويغادر والدموع تملأ عينيه، وفى كل مرة تراه فيها تسيطر عليها رعشة لمدة ساعات خوفا من العقاب الذى سيقع عليها إذا أساءت التصرف أو طلبت منه أن يأخذها معه.
قضت ليلة مؤرقة مضنية بعد أن عزمت أمرها ودعت من الله أن تنجح محاولتها هذه المرة فى الهرب بعد فشل أكثر من محاولة وذهبت أدراج الريح، قبل الفجر عندما تأكدت أن الجميع كانوا نائمين، تسللت بهدوء، وفرّت إلى الشارع، وحدها كانت على قارعة الطريق كالصعلوكة المتشردة، حاملة معها سنوات من الإهانة والذل ووحدة مريرة، لم تمض عدة ساعات إلا وكانت فى قبضة الشرطة، ومخدومها يتسلمها ويرجعها إلى السخرة والأشغال الشقة مرة أخرى بعد أن أخذت علقة موت.