بقلم:عزة كامل
فى الخارج كان المطر يضرب النوافذ بقوة، وفى الداخل كان جو غرفتها البارد المعتم يؤلم عظامها، والهالات السوداء تحت عينيها تشى بعذاب وقلق، ارتفع صراخها المحبوس داخلها تمردًا على الإهمال والنسيان: «أنا أتنفس، موجودة، أستحق أن أعيش، لست جمادًا، أنا إنسانة من لحم ودم، مازلت أقاوم هشاشتى فى هذه الغرفة التى أقضى فيها سنوات حياتى المسروقة، أتخبط بين الظلام والصمت، وحين يخترق الضوء عينى وتبدد الظلمة، يشتعل داخلى نور أتخطى به ذلك السجن الظالم، وتشتعل رغبتى فى التأمل ومحاولة فهم فلسفة الحياة».
خلف هذا الوصم بالجنون كان عقلها لا يزال حادًا، عندما جاءوا بها إلى هنا ألقوها فى حوض الاستحمام البارد، انزلقت قدماها وضربت رأسها بقوة فى حافة الحوض وانسال الدم بغزارة منها، أخرجوها بعدما اشتد صراخها، حلقوا شعرها وأجروا خياطة للجرح بخيط غير قابل للامتصاص، لم يعتنوا بالجرح فترك علامة واضحة فى مفرق رأسها، أما قدمها اليمنى فقد أصابها عرج خفيف، عندما أتوا بها إلى تلك المصحة كانت بالكاد قد أتمت العشرين من عمرها، لم يعجب أخوتها الذكور طبيعتها المتمردة ومطالبتها بإرثها بعد وفاة والدهم، وعندما اتخذت أهم قرار فى حياتها، قرار محفوف بالمخاطر، وبالهرب من سجنها العائلى، والاستقلال عنهم، ولحظها العاثر عثروا عليها، وأخذوها بالقوة إلى هذه المصحة العقلية، وبعد موقعة حوض الاستحمام حبسوها فى حجرة مظلمة بدون نوافذ أو مصدر ضوء، فى الأيام الأولى كانت شاردة الذهن ومرتبكة، تنام بعين واحدة مفتوحة، خوفًا من اقتلاعها بالقوة من السرير لتلقى الجلسات الكهربائية، وخوفًا من الأطباء وطاقم التمريض الذى يمارس عليها أشد أنواع العنف.
اتخذت قرارها، ودربت جسدها لتقوية عضلاتها، ولم تبلع الأدوية التى كانت تجعلها فى حالة خدر دائم، مرت الأيام، والأسابيع، وسنوات الخوف والألم، وكانت الحياة تمضى ببطء، لم يكن أحد يعلم أن هذا الشتاء سيسجل كأكثر الفصول رعبًا، تسللت فى ظلام الليل إلى عنابر المجانين المحبوسين قصرًا وظلمًا مثلها بعدما اتفقت معهم على الخطة كاملة، كل اثنين منهم اقتحموا غرفة من غرف الممرضين والأطباء، وذبحوهم، وتوجهوا إلى باب المصحة قتلوا الحراس وخرجوا وسط صمت كثيف يلف المكان، عانقوا بعضهم بعضًا وتفرقوا كل فى طريقه، ومن يومها لم تتوقف جرائم قتل طاقم العمل فى المصحات العقلية، ولم يستدل أبدًا على الفاعل، أما هى فقد عاشت فى راحة بال أبدية واستطاعت أن تنام ملء جفونها.