توقيت القاهرة المحلي 12:48:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المصالحة مع الأرض

  مصر اليوم -

المصالحة مع الأرض

بقلم: آمال موسى

صحيح أن الصيد هو مهنة الإنسان الأولى، ولكن الزراعة مثلت حدثاً قوياً في تاريخ الإنسانية، إذ معها بدأ الإنسان في كتابة فكرة الاستقرار في مكان بعينه وتغيير نمط التنقل والترحال ومشقة العيش على الصيد ومغامراته. انطلق الإنسان في مصادقة الأرض ورسم لوحة لا تنتهي أبداً عندما أحاط مسكنه الأول بالزرع والماشية.
وعلى امتداد العصور القديمة والوسطى والحديثة كانت الزراعة ركناً أساسياً من أركان معاش المجتمعات، حتى ولو كان توزع الأراضي الصالحة للزراعة يختلف من بلد إلى آخر. غير أنّه مع تقدم الصناعة وانتشار المصانع والمعامل وهيمنة المناطق الحضرية على الريف، حصل نوع من العزوف عن العمل الزراعي، ومال الشباب نحو الأعمال المنتمية لقطاعات مثل الصناعة والتجارة والسياحة، وتراجع الشغف بالأرض والفلاحة وامتلاك الأراضي وانتظار المحصول، وتراجع مع ذلك الشغف رأسمال قيمي وثقافي برائحة التراب والأيادي الفرحة بالحصاد والمجبولة على جمع الثمار. فالعلاقة بالأرض عن طريق الزراعة تمثل أيضاً طريقة في الشعور والتفكير ونظرة كاملة للحياة بكل تفاصيلها الحميمة والخاصة والجماعيّة.
الآن في هذه اللحظة العصيبة التي يعرفها العالم حيث لا هاجس غير الغذاء، وحيث أجبرنا الحجْر الصحي على ملازمة البيت ولا خروج منه إلا بسبب يتصل بالغذاء، فإننا نجد أنفسنا أمام حقيقة أهملنا جوهرها منذ عقود، وهي أن الأرض هي الأم الحنون؛ منها نعيش وبها نحيا وأيضاً إليها نعود. والأرض هنا لا نقصد بها الكوكب بقدر ما نركز على أراضي هذا الكوكب الحبلى بالغذاء المانع للجوع. المشكلة أنه حتى الدول التي لم تسقط من اعتباراتها أهمية الزراعة، أو ما يسمى علم فلاحة الأرض، فإنها انخرطت في استنزاف الأراضي الفلاحية بالهندسة الوراثية من خلال بذور معدّلة كي تنبت بشكل أسرع وأكبر من حيث المحاصيل. أي أن الفلاحة بما تعنيه من عملية لإنتاج الغذاء والعلف والألياف عرفت مبالغات في النهم وفي إرباك النظام الطبيعي للتربة، فحصل تدهور شمل قرابة ربع أراضي العالم، ومن مظاهره انحلال التربة وتلوث المياه الجوفية بسبب السماد غير الطبيعي. لذلك فمن سنوات وبعض العلماء يتحدثون عن تدهور حاد في المستقبل يطال إنتاج المحاصيل الزراعية. ومن سنوات أيضاً بدأت تطلق صيحات الفزع حول مشكلة الماء وما تعيشه البيئة من ضغوطات وطبقات المياه الجوفية من استنزاف.
الرد الوحيد على صيحات الفزع والتهديدات التي بات يعرفها الأمن الغذائي غير المتحقق بالشكل المطلوب إنسانياً وعالمياً، هو ما يسمى بالفلاحة البيولوجية التي هي الفلاحة الطبيعية بالسماد الطبيعي ووفق قوانين الطبيعة والمناخ التي خضع لها الأجداد في السابق.
وها هو «كورونا» يذكرنا بحجم الإهمال والورطة التي وضعت فيها الإنسانية نفسها. فالقطاع الأكثر قدرة على الصمود أربكنا نظام وتيرته وقلصنا من رهاننا عليه، الأمر الذي جعل السلسلة الغذائية مهدّدة أكثر. فالحجْر الصحي عطّل الصناعة، والسياحة توقفت والفنادق فارغة من السياح، والعملة الصعبة أضحت صعبة أكثر وحركة التصدير والتوريد شبه مشلولة.
كما أن هذه الأزمة التي أقعدت العالم بالبيت وأوقعته في الحجْر بمختلف معانيه لا أحد يستطيع تكهن تاريخ محدد لانقشاعها، حيث هناك من يتحدث عن أشهر طويلة، وتصارح منظمة الصحة العالمية البشرية بأنه عليها أن تتعود على نمط جديد من الحياة... وكل هذه الأحاديث المخيفة تزيدنا قناعة بأن الحل في الفلاحة أولاً، على الأقل لضمان الحد الأدنى من الغذاء وتأمين ما يضمن الحياة للسكان.
ولعل بلداننا العربية التي انخرطت من دون حساب في قطاعات مختلفة وأهملت الفلاحة وتشجيع الفلاحين، مطلوب منها لمواجهة واقع العزلة المفروضة تدارك حال الزراعة وما عانته الفلاحة من إهمال بسبب تحول الوجهة نحو السياحة التي استنزفت الكثير من الموارد والأموال.
والغريب أنّه حتى عندما أضر الإرهاب بالسياحة وزرع الخوف في قلوب أصحاب رؤوس الأموال الذين خفتت حماستهم للاستثمار في بلداننا، بما في ذلك الرأسمال العربي نفسه، لم تراجع غالبية البلدان العربية سياساتها الاقتصادية وظلت مصر وتونس والمغرب بشكل خاص معتمدة على السياحة من دون الانتباه إلى أن الفلاحة هي عصب أي اقتصاد قوي ومستدام، وأن الفلاحة هي التي تمكنها من مواجهة الأزمات في عالم بات يعيش من سنوات طويلة على وقع التوترات والإرهاب وتداعياته الاقتصادية.
نعتقد أن أزمة فيروس «كورونا» ومأزق العزلة يدفعاننا إلى العودة إلى العمود الفقري للاقتصاد والمجال المنتج للغذاء: الزراعة. ففي هذه اللحظة حيث التعويل على الذات الوطنية وعلى الحلول الذاتية تتضاعف أهمية الفلاحة ولا طريق أمام العالم وأمام البلدان العربية إلا تحفيز الشباب على العمل الفلاحي ومساعدته مادياً بقروض ميسرة أو من دون فوائد.
لا شيء سيمكننا من مقاومة الأزمة الاقتصادية القادمة بقوة ومجابهة شبح الجوع وأرقام الفقر المتضاعفة غير الرّهان على الزراعة التي تجلب الغذاء للسكان ومن ثم أهم أبعاد الأمن. هكذا نتصالح مع الأرض: الأم الحنون.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المصالحة مع الأرض المصالحة مع الأرض



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:33 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

عمرو يوسف يتحدث عن "شِقو" يكشف سراً عن كندة علوش
  مصر اليوم - عمرو يوسف يتحدث عن شِقو يكشف سراً عن كندة علوش

GMT 22:56 2018 الثلاثاء ,24 إبريل / نيسان

إيدين دغيكو يصنع التاريخ مع روما

GMT 18:14 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

محمد هاني يتعرض لكدمة قوية في الركبة

GMT 02:04 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

اللقطات الأولى لتصادم 4 سيارات أعلى كوبري أكتوبر

GMT 16:20 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

مقتل 3 مواطنين وإصابة 4آخرين في حادث تصادم في المعادي

GMT 07:05 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أجمل ديناصور في العالم بألوان مثل طائر الطنان

GMT 06:33 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

تعرف على أسعار الحديد في الأسواق المصرية الثلاثاء

GMT 21:12 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

الأهلي يعترف بتلقي مؤمن زكريا لعرض إماراتي

GMT 00:34 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النصائح الخاصة بإدخال اللون الذهبي إلى الديكور

GMT 12:51 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد ناجي يمنح محمد الشناوي وعدًا بالانضمام للمنتخب

GMT 14:37 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الإعدام شنقًا لـ7 من أعضاء خلية "داعش" في مطروح

GMT 13:23 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"الخطيب" يدعو أعضاء الأهلي لحضور ندوته الرسمية في الجزيرة

GMT 02:07 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الدولار الأحد في السوق السوداء الأحد

GMT 17:42 2014 الجمعة ,15 آب / أغسطس

حدوث هبوط أرضي في حي الكويت في السويس
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon