توقيت القاهرة المحلي 10:05:00 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إيمانويل ماكرون... بونابارت أم شارل ديغول؟

  مصر اليوم -

إيمانويل ماكرون بونابارت أم شارل ديغول

بقلم : عبد الرحمن شلقم

  فرنسا لها مساحتها الخاصة في مدارات الزمان وامتدادات المكان. في الحرب، الفلسفة، الشعر، الاستعمار، الثورة، السياسة، والاقتصاد، كانت بلاد الغال بوصلة وألواناً وقلماً وسيوفاً وبنادق.

للجغرافيا عبقريتها ومكرها وكذلك التاريخ. أوروبا إبداع الجغرافيا. قارة لها موقع خاص، وبنية بشرية متنوعة، فعلت في التاريخ وفعل فيها. فرنسا قدماها في البحر الأبيض المتوسط، وجسدها يتحرك في كل الاتجاهات. تداخل قلبها وعقلها على مرّ التاريخ في حركة عضلاتها. انطلق عقل النهضة الأوروبية من إيطاليا المجزأة، لكن الكنيسة كانت الرقيب الذي يكبح اندفاعه العقل. كيمياء الحياة تبدع قوتها في الأزمنة والأمكنة. انفردت أوروبا بقيادة العقل الإنساني بين حقبتي النهضة والتنوير. غاب العرب عن تلك المسيرة. بعد سقوط الدولة العباسية وهيمنة العثمانيين على العالم العربي وضعت الأرض العربية، وكذلك العقل في غرفة مظلمة على مدى خمسة قرون. غاب تأثيرهم وتأثرهم طوال تلك الحقبة الطويلة. أوروبا بمثلثها الفاعل؛ فرنسا وألمانيا وبريطانيا، كانت قوة العقل الإنساني الجديد في الفلسفة ثم الصناعة وإعادة تشكيل دور العقل في مسيرة الحياة البشرية الجديدة. فرنسا كانت المهد لولادة فكر جديد عبر فلسفة تعلي قيمة الإنسان. عصر التنوير الذي اندفع في القرن السابع عشر الميلادي ولم يتوقف كان لفرنسا فيه المكان الفسيح.

الثورة الفرنسة كانت نتاج قوة العقل الذي نقل الإنسان من خاضع تابع إلى فاعل مبدع.

نابليون بونابارت كان النتاج العسكري والفكري أيضاً لسنوات من المخاض الشامل الذي عاشته فرنسا في خضم مرحلة التنوير. هو أيضاً مولود الجغرافيا، من أبوين إيطاليين بجزيرة كورسيكا المتوسطية. سكانها لا ينتمون إلى الجنس الآري بل الفينيقي. انضم إلى الجيش الفرنسي وتدرج في الرتب والمناصب العسكرية إلى أن صار قائداً للجيوش الفرنسية. كان الحامل المسلح لفكر الثورة الفرنسية الذي يهدف إلى توحيد أوروبا تحت لواء فرنسا وقيادته الشخصية لها. حارب ألمانيا وإيطاليا والنمسا وروسيا. اصطدم مراراً مع القوة الأوروبية البحرية الضاربة؛ بريطانيا - تنقل بين صدام المعارك وترتيبات السلام. كان مناصراً للجمهورية ضد الملكيين. حلم بالسيطرة على الشرق واندفع نحو مصر، لكن الإنجليز واجهوه في مصر والشام وردّوه على عقبيه. انكسر في روسيا التي كان يرى فيها ركناً من أوروبا.

نابليون أسطورة أوروبية قدر ما هو أسطورة فرنسية. كتب بشخصيته وتاريخه ملحمة شكسبيرية لا تزول من عقل الدنيا. عندما جرى نفيه إلى جزيرة إلبا إثر هزيمته، لم يستسلم وعاد إلى باريس صحبة قلة من الجنود، وكانت المفارقة باستقبال الجماهير الحاشد له وأعاد بناء زعامته السياسية والعسكرية. لقد حارب كل أوروبا وساد عليها ووحدها وفرض قيم التنوير، وقضى على محاكم التفتيش والإقطاع... المأساة جزء من العظمة... بعد هزيمته، عقدت أوروبا مؤتمراً تقاسمت فيه تركة نابليون الأوروبية، وانتهت حياته منفياً في جزيرة هيلانة بجنوب الكرة الأرضية. أعيد جثمانه بعد سنوات إلى فرنسا، لكن الأسطورة الفرنسية التي زرعها لم تغادر العقل والتراب والسياسة الفرنسية. سادت فرنسا مرة ثانية في العالم لكن خارج أوروبا، تقاسمت الكرة الأرضية مع بريطانيا وإسبانيا والبرتغال. أسهمت في تغيير خريطة القوة في مطلع القرن العشرين في الحرب العالمية الأولى التي أزالت الخلافة العثمانية وشهدت بروز قوة سياسية وآيديولوجية جديدة هي الاتحاد السوفياتي، استضافت مؤتمر فرساي الذي صنع خريطة الدنيا الجديدة.

أوروبا تبقى تلاحق فرنسا التي تحملها في قلبها وعقلها وحركتها سلماً وحرباً. بعد استسلام ألمانيا إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، تقاسمت فرنسا القوة في أوروبا مع بريطانيا، وعاشت القارة العجوز في سلام لعقدين تقريباً، لكن نار الصدام اشتعلت بوصول النازية إلى السلطة في ألمانيا. هذه المرة نابليون ليس فرنسياً، عريف شاب عبأ القدرات العلمية والعسكرية الألمانية ليجتاح أوروبا لتوحيدها تحت الصليب المعقوف. بعد ضم النمسا سلماً اجتاح تشيكوسلوفاكيا وبولندا. أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على الرايخ. اندفع هتلر نحو فرنسا واستولى عليها في أيام معدودة. استسلمت بلاد نابليون قاهر أوروبا، وقعت أرض الثورة وشعلة الحرية تحت سطوة الديكتاتورية النازية الغاشمة، وأرغمت القيادة الفرنسية على توقيع الاستسلام المذل في عربة القطار نفسها التي وقعت فيها ألمانيا تنازلها لفرنسا في الحرب العالمية الأولى. لم يكتفِ هتلر بذلك، بل أقام حكومة فرنسية عميلة له برئاسة بيتان الرمز العسكري الفرنسي في الحرب الأولى، واتخذت من فيشي مقراً لها. التاريخ وصراع الترميز لم يغب، ألم يقرر نابليون بونابارت بناء قوس النصر في باريس يوم دخوله إلى برلين؟

استسلمت فرنسا وتجرعت كل سوائل الهزيمة، لكن أنفاس نابليون ووهج فكر التنوير لم تزل تفعل فعلها في العقل والضمير الفرنسي. الضابط الشاب شارل ديغول ومعه ثلة من رفاقه قرروا المقاومة وأسسوا قوات فرنسا الحرة، معتمدين على الدعم البريطاني والقوات الفرنسية في المستعمرات. يمم الضابط ديغول شطر لندن والتقى رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل شريكاً لا تابعاً، وصار الرقم الثاني في قوة الحلفاء المواجهة بقوة السلاح للتوسع النازي.

قاد ديغول العمل العسكري والسياسي الفرنسي، حيث ذهب إلى موسكو والتقى الزعيم السوفياتي ستالين. لكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفي قمة يالطة استبعد القائد الفرنسي، لكنه لم يساوم أو يضعف، استعان بعقل تشرشل الذي ناور لمواجهة الهيمنة الأميركية والسوفياتية. نجح تشرشل في أن يجعل فرنسا إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. عندما قامت الولايات المتحدة بتقديم الدعم المالي لأوروبا عبر مشروع مارشال كانت رؤية ديغول أن يتم ذلك من خلال أوروبا الواحدة، كي لا تكون أداة طيعة في يد الولايات المتحدة الأميركية. عندما تأسس حلف شمال الأطلسي سنة 1949 عمل الجنرال ديغول أن يكون لأوروبا دور قيادي في هذا الجسم العسكري الجديد. ورغم اعتزال الجنرال العمل السياسي مدة 12 سنة في ذلك الوقت، فإنه عاد بقوة وأسس حزب التجمع من أجل الجمهورية. هنا ينبت من جديد نابليون الذي يغيب ليعود أكثر قوة، أصبح الجنرال رئيساً لفرنسا بقوة داخلية ورؤية أوروبية، وعمل بقوة مع ألمانيا عدو الأمس من أجل أوروبا، وتواصل مباشرة مع كونراد أديناور المستشار الألماني، وبدأت المسيرة نحو الوحدة الأوروبية التي قال عنها ديغول إن إيطاليا وفرنسا وألمانيا هي ركائزها الثلاث، وشكك في انتماء بريطانيا لهذه الوحدة. كان يقول - روسيا - وليس الاتحاد السوفياتي، لأنه لا يؤمن بالعناوين الآيديولوجية.

إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي الشاب الذي يقود فرنسا وسط خضم أوروبي ودولي وسياسة أميركية تحت قيادة ترمب، الذي رفع شعار أميركا أولاً. العلاقة الفرنسية - الأميركية قديمة وتأسيسية منذ الثورتين والحربين العالميتين والتحالف الأميركي - الأوروبي. ماكرون يعمل لإعادة بناء فرنسا الجديدة اقتصادياً واجتماعياً، ويقود أوروبا الجديدة لتحقيق توازن دولي. نابليون حارب أوروبا من أجل قيادتها، وشارل ديغول حارب من أجل فرنسا وتحرير أوروبا وتوحيدها. انهزم الأول في النهاية وانتصر الثاني. تحدث ديغول أمام الكونغرس الأميركي باللغة الفرنسية، لكن ماكرون تحدث باللغة الإنجليزية في عملية إنزال خلف الخطوط بالتعبير العسكري. خالف توجهات ترمب وصفق له أعضاء الكونغرس ووقفوا تحية له مرات.

إيمانويل ماكرون هو جون كيندي فرنسا بنفس أوروبي، فيه انتماء ديغول ورؤيته وإصرار نابليون. السؤال: بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي... من هو تشرشل ماكرون؟ ومن هو أديناور ألمانيا؟

نقلا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إيمانويل ماكرون بونابارت أم شارل ديغول إيمانويل ماكرون بونابارت أم شارل ديغول



GMT 09:13 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

مبروك للأبيض.. عقبال الأحمر

GMT 09:11 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

ماذا بعد رئيسى؟

GMT 02:27 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

تحشيش سياسي ..!

GMT 02:21 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

السلطة والدولة في إيران

GMT 12:49 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك
  مصر اليوم - افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك

GMT 12:36 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها
  مصر اليوم - أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها

GMT 07:07 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

مندوب مصر يؤكد رفض بلاده العدوان على رفح
  مصر اليوم - مندوب مصر يؤكد رفض بلاده العدوان على رفح

GMT 09:58 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

تكريم نيللي كريم على جهودها لنشر الوعي الصحي
  مصر اليوم - تكريم نيللي كريم على جهودها لنشر الوعي الصحي

GMT 02:55 2019 الإثنين ,03 حزيران / يونيو

نيللي كريم تتحدث عن ظهورها في فيلم "كازابلانكا"

GMT 20:58 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

دي ليخت بين مطرقة عمالقة أوروبا وسندان برشلونة

GMT 18:43 2019 الثلاثاء ,12 شباط / فبراير

خبير أرصاد يُحذّر من استخدام الكمامات في العاصفة

GMT 12:42 2019 الأربعاء ,16 كانون الثاني / يناير

خطرٌ يُهدد حياتك بسبب النوم أكثر أو أقل من 8 ساعات يوميًا

GMT 02:16 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

بدران يؤكد أن الموز يُخفّف حموضة المعدة

GMT 12:55 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

مباراة توتنهام ضد تشيلسي تخطف الأضواء في الدوري الإنكليزي

GMT 03:34 2018 الأربعاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

مميزات استخدام ديكور الجدران الخرسانية في غرف النوم

GMT 21:44 2018 الأحد ,09 أيلول / سبتمبر

تفاصيل جديدة مثيرة في واقعة "مذبحة الشروق"

GMT 23:32 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

صخرة برشلونة مهددة بالغياب عن مواجهة فياريال

GMT 15:00 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

محمد الحنفى يؤكد انتظاره إدارة القمة منذ 3 سنوات

GMT 05:38 2018 الجمعة ,20 إبريل / نيسان

انطلاق أول رحلة لطائرة في الصيف "Stratolaunch"

GMT 10:06 2018 الجمعة ,13 إبريل / نيسان

هادجنز تتألق في تقديم مجموعة "سينفول كلورز"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon