بقلم: رضوان السيد
عندما يسمع متابعو الفضائيات أو وسائل التواصل المطالب التي يقدمها عشرات آلاف الشبان المعتصمين في الشوارع، يشتد استغراب عارفي لبنان وخابريه من العرب والدوليين. فهم يطالبون بالصحة والتعليم والنقل والبيئة النظيفة وفُرَص العمل، وهي أمور تدخل في واجبات أي دولة والتزاماتها تجاه مواطنيها، لكنها لا تؤدي إلاّ قسطاً ضئيلاً منها. والشبان يذهبون إلى أنّ هذا الإهمال الفادح علته الفساد. والفساد المقصود مالي وسياسي وثقافي. وفي رأي الشبان وكثير من اللبنانيين من شتى الفئات أنّ الفساد صار شاملاً، بل صار أكثر من ذلك، أي صار عقلية أو ذهنية، وهو اعتبار المنصب العام وسيلة للإثراء السريع، واعتبار الزبائنية أو التبعية السبيل الوحيد لبلوغ المنصب العام، وللنجاح أيضاً في الأعمال الخاصة التي يتشارك فيها السياسي مع رجل الأعمال الجديد أو القديم. ولأنّ موارد الدولة محدودة، ولأنّ الفساد المباشر أو بالواسطة استولى على نحو الأربعين في المائة من الدخل الوطني؛ فلذلك تضاءلت قدرة الدولة على أداء الخدمات الأساسية، ولجأت للاستدانة من السوق المحلي ومن الخارج. ولنضرب على سبيل المثال نموذج قطاع الكهرباء. فمنذ العام 2008 (تاريخ تولي أول وزير من التيار الوطني الحر لهذا القطاع) وحتى منتصف العام 2019، بلغت ديون القطاع 35 مليار دولار، وهي تبلغ بذلك ثلث الدَّين العام. ويمكن أن نذكر أمثلة أخرى لوزارات وقطاعات ليست بأيدي العونيين، بل بأيدي فِرَق سياسية أُخرى، ومنها الاتصالات، ومنها بلدية بيروت، ومنها وزارة البيئة، ومنها وزارة المهجَّرين، ومنها عقود النفط والغاز، ومنها المرافق التي تعطي أعمالاً ومشروعات أو تستأجر أبنية وأراضي من القطاع الخاص. ومنها السيطرة التاريخية لكل الفرق السياسية على الأملاك البحرية، وأراضي الدولة الأميرية.
إنما الجديد الجديد هو ما أصرَّ عليه الوزير جبران باسيل من تحزيب الإدارات العامة للدولة. فتحت عنوان استعادة حقوق المسيحيين، جاءت كل التشكيلات الإدارية والقضائية والدبلوماسية من أتباعه وأنصار حزبه. والذين اعترضوا، مسيحيين وغير مسيحيين، على هذا التحزيب والتخريب للإدارة والقضاء اختُرعت أسبابٌ لتحويلهم على التفتيش أو ما شابه للتشكيك فيهم والإساءة لسمعتهم إن لم يكن لعزلهم من مناصبهم. وقد آثر كثيرون من ذوي الكرامات من السنة والمسيحيين والدروز الاستقالة ومغادرة الخدمة خوفاً من الجرجرة إلى القضاء حتى لو ظهرت براءتهم فيما بعد!
كان التيار الوطني الحر المتحالف مع سعد الحريري ومع «حزب الله» وحركة أمل في صنع التسوية، قد سار هذا المسار منذ سنواتٍ عشر. لكنّ الأمر استتبَّ له مع وصول زعيمه إلى رئاسة الجمهورية. ولا شك أنّ عمليات الفساد الهائلة التي ارتكبها، ما كان مذنباً فيها وحده. بل شاركت وسايرت كل الأطراف الأخرى الموجودة في الحكومة، أو الحكومتين، ربما باستثناء القوات اللبنانية. كنا نأخذ على القوات أنهم يتجادلون مع العونيين على حصص ولو صغُرت في التعيينات، لكنهم أقنعونا أخيراً أنّ المطلوب ما كان الحصة بل الشخص المناسب في المكان المناسب. وهذا أمرٌ كان هناك إصرار على مخالفته تماماً، والمجيء بأشباه أميين وفاسدين في القضاء وفي التعيينات الدبلوماسية. وجاءت النكتة الأخيرة أنه لا يجوز أن يعين مسلمٌ في أي منصب ولو كان ناجحاً في مباريات مجلس الخدمة المدنية إلاّ إذا عُيِّن في مقابله باسيلي مسيحي ولو لم ير مجلس الخدمة ولا يعرفه!
ولستُ أعرف إذا كان الشق الثاني من التركيبة الباسيلية ضرورياً أو منطقياً. وهو تضمن تغييراً كبيراً في سياسات لبنان الخارجية، والتنازع بسبب أو من دونه مع فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والمملكة العربية السعودية، والمضي بقوة باتجاه ما يسمَّى محور المقاومة أو الممانعة. ولا شكَّ أنّ إيران ونصر الله استثمرا طويلاً في التيار العوني، وتلقيا دعماً كبيراً منه باعتباره فريقاً مسيحياً كبيراً في صراعه مع قوى 14 آذار، ثم مع العرب في السنوات التي صار فيها كل عربي إرهابياً فظيعاً. أما هؤلاء الذين يقتلون في كل مكانٍ فإنهم حُماة الأقليات، وصانعو تحالُفها وانتصاراتها. لكنّ هؤلاء لا يعرفون التاريخ ولا الثقافة ولا دور المسيحية في الشرق. فالمسيحيون ومن خلالهم اللبنانيون كلهم غربيون في المدرسة والجامعة والمستشفى واللغة والهوى والنظام المالي والشرعيات الثلاث: الوطنية والعربية والدولية. ولو كان المسيحيون الجدد هؤلاء طائفة من الزهّاد والنسّاك لربما صدّق البعض أن الأمر آيديولوجي أو حتى دوغمائي. لكن اللبنانيين جميعاً يعرفون أنّ ما يكسبه هؤلاء من الفساد، ومن عطايا المقاومة ومنَحها إنما يضعونه في المصارف الغربية! وأولادهم يعملون في العالم العربي أو الخليج، وكثير منهم لديه جنسية غربية أو أكثر! ومع ذلك فهم يبحثون في «اللقاء المشرقي» وتحالف الأقليات!
وعلى أي حال؛ فإنّ هؤلاء افتضحوا فضيحة ما بعدها فضيحة وعلى أيدي أبنائهم وشبانهم الذين نزلوا للشارع مندّدين بفساد الآباء، والطبقة السياسية، وكيف انظلم من وراء ذلك كلّ الوطن. لا نموّ في لبنان من سنوات. وميزان المدفوعات فيه اختلال. والدين العام أكثر من تسعين مليار دولار. وليست في البلاد فرصة عملٍ محترمة واحدة، يمكن أن يصل إليها ذوو الكفاءة من دون واسطة. وعلى التلفزيون عرضت عدة نسوة حالات من عائلاتهن ما وجدوا سريراً في المستشفى الحكومي، لأنه لا واسطة لديهم، ولا مال للرشوة!
من أين يدخل الجديد على هذا النظام الذي صار مقفلاً بالفساد وبالعجز وبالتخلف في الخدمات، وفي الرؤية المستقبلية. الشباب يقولون: لذلك ينبغي إسقاط هذا النظام المتصدّع. وربما يكون ذلك سهلاً بسبب الهشاشة والانقسام. ويردّ عليهم أهل النظام نحن منتخبون من سنة ونصف. وإذا كان الحريري قد استقال تحت ضغوطكم فهو سيعاقَب من نصر الله كما قال، ومن عون. فقد مضى أكثر من أسبوع على الاستقالة، ولم يدع عون لاستشارات نيابية لتشكيل حكومة جديدة. وقد بدأ الجيش يقسو على المتظاهرين بعد أن ظنوه حليفهم، تحت ضغوط عون وباسيل. والناس يضيقون ذرعاً بإقفال المصارف والطرقات وتعسُّر سبل العيش. فالنظام العاجز والفاقد للثقة يستطيع رغم كل شيء أن يكون قوياً في وجه شعبه وشبابه.
هذه هي صعوبات الانفتاح على الجديد، بعد أن تكلَّس نظام لبنان الذي كان رائداً في المنطقة العربية والمشرق خلال القرن العشرين!