توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فكأنما أحيا الناس جميعا

  مصر اليوم -

فكأنما أحيا الناس جميعا

بقلم: تمارا الرفاعي

هناك عالم كبير، بعيد، قاسٍ وبارد، يسكنه وحوش يلعبون كرة القدم بالكرة الأرضية فيشوطونها بأقدامهم، يتقاذفونها فى ضربات تسبب لها كدمات ولمن يعيش عليها كسور ورضوض لا يلتئم الكثير منها حتى مع مرور سنوات طويلة. يرمى أحدهم بالكرة فى الهواء، تطير وتقع على جنبها فينفجر بلد. يصل اللاعب الآخر إلى الكرة (الأرضية) ويضربها بعنف يقتلع قارة بأسرها من مكانها فوق رءوس اللاعبين الآخرين، وينفجر بلد آخر. تعود الكرة إلى الملعب وتلف بين الأرجل حتى تدوخ ويدوخ أهلها. أما اللاعبون فهم غير مهتمين بمن على الكرة الأرضية يصرخون من الألم والعوز. يستمر الوحوش بلعبهم وعنفهم ويستمتعون بإلحاق الأذى.
***
هناك عالم آخر صغير، قريب، حساس، يسكنه بشر يفتحون قلوبهم وجيوبهم لمن يحتاج، يلتقطون ما يدمره لاعبو العالم البعيد. هو عالم يضع سكانه القرش فوق القرش ليساعدوا من قل حظه دون ذنب منه. عالم يرفض فيه سائق عربة الأجرة نقودا من راكبة سورية فى نيويورك لأنه سودانى ويتفهم معنى أن يشوطك العالم بقدم من حديد. عالم تطلب فيه سيدة ألا يذكر اسمها حين تظهر عند كل مطب لتمسح على جراح من يحتاجها. هو عالم صغير يطبطب على أرواح مجروحة ويشارك أفراده بلهفة فى حملة جمع تكاليف مدرسة لطالبة لم يعد بقدرة عائلتها أن تدفع أجورا باتت غير إنسانية.
***
عالمان متوازيان لا يتقابلان، عالمان لا يجمعهما شىء، عالمان أراهما كجهازى تليفزيون يعرض كل منها قصصا خاصة به، أشعر أننى أرى شريطين فى الوقت ذاته فأحدق فيهما حتى يصيبنى دوار من زخم أحداثهما. أنا أدخل فى أول جهاز ثم الثانى وأعود إلى الأول فالثانى طوال الوقت. أتخيل علبة تليفزيون قديمة فأنا من جيل ما قبل الشاشة الرفيعة، أخرج من علبة تليفزيون إلى العلبة الأخرى. أدخل إلى الأولى فينفجر صاروخ فوق رأسى وأرى أشلاء تتطاير من حولى. أعود خطوتين إلى الخلف من هول المنظر فتظهر حرائق تلتهم غابات سبق وتمشيت بين أشجارها ولا أصدق ما أراه. ألف بوجهى عن الحرائق فأرى خيما إلى ما لا نهاية تأوى أشخاصا يحلفون لى أنهم أولاد عز تركوا بيوتا وبساتين خلفهم حين هربوا من الحروب.
***
أخرج من علبة التلفزيون المقيتة وأدخل فى العلبة الثانية بحثا عن عالم آخر. وبالفعل تستقبلنى ابتسامة ووجه بشوش، خبر سعيد وحضن دافئ أرتمى فيه وأشعر أننى عدت إلى حيث الأمان. فى هذه العلبة لم يسأل أحد عن الدين والعرق والبلد، لم يهتم اللاعبون بتفاصيل رأوا أنها تعطل بدل أن تسهل اللعبة. هم رفعوا اللاعب المصاب برفق ونقلوه بروية إلى مكان تحت الشجر. تناوبوا على رعايته وهمسوا فى أذنه كلمات مطمئنة حتى استكان. غطوه بعد أن نام وحرسوه حتى الصباح حين قام فشعر أنه أكثر نشاطا وأقل مرضا.
***
عالمان متوازيان، علبتان تحمل كل منهما حيوات تدمرت وناس تقطعت أحلامهم وأوصالهم. فى الأولى يستمر اللعب بالمصائر بينما فى العلبة الثانية يتم ترميم الأحلام بخيوط ملونة والكثير من الحب فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فى العلبة الأولى موارد ضخمة وإمكانيات هائلة تستخدم كلها لإحداث الدمار بينما تستخدم العلبة الثانية إمكانيات متواضعة لتصليح الكون وتنجح فى ذلك أيضا.
***
يضغط العالم الوحشى على العالم الحنون بكل ثقله، يحاول أن يقتلع منه النور، أن يعمى القلوب، يريد أن يطفئ الأمل ويمحو قوس قزح فى السماء. وها هو العالم الثانى يدفع بالظلام بكل ما يملك من عزم، يحرك الوحش عن صدره كمن يحاول الخروج من تحت صخرة دهسته فكادت أن تقطع أنفاسه. تخيلوا أشخاصا صغيرى الحجم يواجهون وحشا مسعورا تخرج من فيه النيران وهو يدوس بأقدامه وذيله الثقيل على كل ما حوله فيدمره. تخيلوا أشخاصا قليلى الحجم وأقوياء الإيمان، إيمانهم بأن زرع الخير لا بد أن يثمر، يلتقطون من تحت أقدام الوحش ضحاياه ويسرعون بهم إلى بيت آمن. قد لا يستطيعون أن يقتلوا الوحش أو يتخلصوا منه، قد لا يكونوا أصلا مهتمين بذلك فى خضم انشغالهم بمن يصرخ من الألم. ما يهمهم الآن هو عدم إثارة الوحوش أكثر والنجاة بمن سحبوهم من الميدان.
****
سلام إلى كل شخص مد يده لمن احتاجه رغم ظنه أنه أصغر حجما من الوحش. طوبى لمن لم ينكسر أمام الدمار ولم ينحن تحت الحمل الثقيل الذى سقط على صدره من أعلى الجبل إنما استمر بدفع الصخرة كما فعل سيزيف فى الأسطورة الإغريقية فظل يدفع بالصخرة حتى أعلى الجبل قبل أن تسقط فوقه مجددا فى الوادى فيعيد الكرة. هؤلاء هم أبطال العالم الكبار، المنتصرون على الوحوش والوحشية، زارعو الأمل ومعيدو ألون قوس القزح إلى السماء. من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فكأنما أحيا الناس جميعا فكأنما أحيا الناس جميعا



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 13:35 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء
  مصر اليوم - استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt