توقيت القاهرة المحلي 13:14:24 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الطرف الآخر من دفترى

  مصر اليوم -

الطرف الآخر من دفترى

بقلم :تمارا الرفاعي

أحتفظ بكل الدفاتر التى ملأتها بملاحظات تتعلق بالعمل على مدى السنوات العشرين الأخيرة. أنقل الدفاتر معى من مكان إلى مكان وأعيد رصها أحيانا حسب تسلسل التاريخ، أحيانا حسب تدرج ألوان الأغلفة وأحيانا حسب مواقع العمل التى كنت فيها حين كتبت الملاحظات. يظن زوجى أننى أحتفظ بالدفاتر للإبقاء على الأحداث كما عشتها وكما أثرت على عملى فى منظمات حقوقية وإنسانية. ربما يظن زوجى أننى أجمع الأحداث بهدف نشرها يوما ما فى كتاب من نوع «شاهد على الأحداث».
***
ما لا يعرفه زوجى هو أننى فعلا أحتفظ بالدفاتر بهدف الاحتفاظ بتفاصيل دقيقة جدا، لكنها لا تتعلق لا بالأحداث من حولى، رغم زخمها، ولا بالاستجابة الحقوقية والإنسانية لها. أحتفظ بالدفاتر لأننى أملأ صفحاتها الأخيرة بتفاصيل تخطر على بالى أثناء العمل فأكتبها على طرف الصفحات الأخيرة، أى عكس اتجاه الورق وفتح الدفتر، معظمها تتعلق بالأصدقاء وبالطعام.
***
صفحات دفاترى الأخيرة سوف تحكى قصصا لا تنتهى عن لقاءات حدثت فى بيوت كثيرة عشت فيها ودعوت عليها أصدقاء للغداء أو العشاء. صفحات دفاترى الأخيرة مقسمة إلى أعمدة أضع فيها أسماء المدعوين وتاريخ اللقاء، وأكتب مقابلهم فى العامود الثانى ما سأطبخه. تتخلل هذه الأعمدة أو اللوائح وصفات مكتوبة بسرعة، أعرف أننى نسختها عبر اتصالات بين دمشق؛ حيث تعيش أمى ومدن كثيرة استقبلتنى على مدى السنوات. إن كان فعلا ثمة من ينصت إلى المكالمات، فقد استفاد كثيرا من وصفات أمى بين دمشق والخرطوم، دمشق ونيويورك، دمشق والقاهرة، بل حتى دمشق وكاتماندو، تلك المدينة البعيدة الوديعة حيث لم يعرف أى شخص قابلته فيها أين تقع سوريا! كان ذلك قبل أن يحتل بلدى الشاشات والصحف الأولى بسبب الحرب.
***
أقلب الصفحات الأخيرة فى دفاتر سنوات من الترحال، مذهل إعادة اكتشاف علاقة الفرد بالمكان من حوله وبالناس وبالمطبخ. يبدو لى أننى ترددت بعض الشىء فى بداية ترحالى من الدخول بقوة فى الوصفات السورية المعقدة رغم أننى نوعت الأصناف، ثم بدأت تدريجيا بنسخ وصفات سورية من مدن مختلفة، مع التركيز على دمشق وحلب، وهما، أى المطبخين، فى تنافس دائم على المركز الأول. هكذا إذا، وتزامنا مع بداية الربيع العربى، والذى بدأت خلاله علاقتى بالأمومة فى بلاد لا تتحدث العربية، طالب مطبخى بهويته بشكل أوضح، وبدأت المناسبات الاجتماعية التى كتبت لائحات المدعويين إليها، بدأت تعكس التطورات فى المنطقة العربية فصارت مصر وتونس وسوريا ممثلة بقوة فى بيتنا، والمطبخ كشف عن أصوله دون مواربة. بدأت صفحاتى تعكس أيضا تمسكا متزايدا منى بكل ما هو سورى.
***
أقلب الدفاتر من الطرفين، من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار فأرى تسارع الأحداث وتسارع اللقاءات وتطور علاقتى بالمطبخ السورى، أرى وصفات أمى وأكاد أن أسمع صوتها تعدد المكونات بينما صوت أبى يصلنى أيضا ليسألنى إن كنت سمعت عن تطور بعينه نقله أحد مراسلى الصحف الدولية. تنهره أمى، فما علاقة الاحتجاجات فى مدينة بعيدة بوصفة محددة ومعقدة تحاول هى أن تشرحها لى من دمشق إلى نيو يورك؟ منذ ذلك اليوم وأنا أربط بين طبق الكبة السماقية وبين حدث أكون قد كتبت عن تفاصيله فى قسم الدفتر المخصص للعمل، بينما تحتل الوصفة ربع صفحة من الطرف الآخر فى الدفتر.
***
أسماء أشخاص فى مجموعات، مع لائحة طعام تزداد تعقيدا مع تعقيد وضع المنطقة، ووصفات تزداد تفاصيلا مع تفاصيل الأحداث كما يرسلها لى أبى فى الصباح قبل أن أسمع الأخبار. عندى فى دفاترى ترابط أصبح اليوم شديد الوضوح حين أقلب الصفحات: منطقة تتعقد، عائلتى تكبر وتنتقل من بلد إلى بلد، وصفات أمى تدخل على الأحداث، أسماء لأكلات سورية يضحك منها أولادى إنما يكررونها اليوم بشكل طبيعى، أصدقاء فى مجموعات ربما التقطت أحيانا صورا لها وكثيرا لم أصورها.
***
أظن أن الطرف الآخر من دفاترى أكثر أهمية من الطرف الأصلى، أظن أننى فى مراجعتى لسنوات من الأصدقاء والمطبخ أستطيع أن أعيد تركيب معظم الأحداث التى عصفت بالعالم دون الرجوع إلى نصف الدفاتر المتعلقة بالعمل. أظن أن من يقلب الدفاتر حين يجدها فى درج بعد رحيلى سوف يحاول حل الأحجية أو الأحجيات الكثيرة التى قد تشكل سردية كاملة عن ما دار حولى فى سنوات نشاطى المهنى والعائلى والاجتماعى.
***
أتمنى على من يجد دفاترى أن يكون مهتما بالشرق الأوسط، حنونا على المشرق تحديدا. أتمنى أن يجد دفاترى شخص يفهم أن فتة المكدوس هى ملكة الفتات، وأن الكبة المشوية من مدينة حمص ويجب أن يدخل فى حشوتها بعض الشحم. أتمنى أن يقدر من يجد دفاترى صعوبة أن ألف ورق العنب ليكون شبيها بما كنت أراه فى الشام فأسخر من حجمه الصغير الذى يكاد أن يذوب فى قضمة. على من يجد دفاترى أن يتخيل بيروت فى أبهى طلاتها، وأن يغمض عينيه على القدس القديمة فيشم رائحتها، وأن يسمع أذان جماعى من الجامع الأموى فى دمشق. أريد أن يعرف من وجد دفاترى أننى من هنا، من منتصف العالم، عالم حملته فى دفاترى حيث تنقلت.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الطرف الآخر من دفترى الطرف الآخر من دفترى



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:49 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك
  مصر اليوم - افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك

GMT 00:17 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

الزمالك بطلاً لكأس الاتحاد الإفريقي
  مصر اليوم - الزمالك بطلاً لكأس الاتحاد الإفريقي

GMT 12:36 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها
  مصر اليوم - أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها

GMT 10:57 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

مفاجآت كبيرة في فيلم "الست" لمنى زكي
  مصر اليوم - مفاجآت كبيرة في فيلم الست لمنى زكي

GMT 18:57 2018 الثلاثاء ,26 حزيران / يونيو

فنانة لبنانية أنهكها العمر ولم تعد تستطيع الحراك

GMT 05:22 2018 الإثنين ,26 آذار/ مارس

سان جيرمان يُغري أنطونيو كونتي براتب ضخم

GMT 05:34 2018 الأربعاء ,07 آذار/ مارس

كايا جيربر تخطف الأنظار بإطلالة من "شانيل"

GMT 11:10 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

لورا ويتمور تجذب الأنظار إلى إطلالاتها السوداء

GMT 09:40 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

تعرفي على كيفيّة العناية بالشعر القصير لينمو بكثافة

GMT 22:12 2017 السبت ,30 كانون الأول / ديسمبر

الإنتاج الحربي يتخطى دجلة بهدفين دون رد فريق

GMT 17:30 2017 الثلاثاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

لوكاكو يتطلع لتوقيع عقد رعاية مع إحدى الشركات الرياضية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon