توقيت القاهرة المحلي 01:42:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الإسلام والمسيحية فى الشرق الأوسط: تاريخ أخوة متأصلة

  مصر اليوم -

الإسلام والمسيحية فى الشرق الأوسط تاريخ أخوة متأصلة

بقلم - بشير أحمد الأنصارى

 كثيراً ما تعيد احتفالات رأس السنة الميلادية فى بيت لحم مشهد التعايش الذى يلتحم فيه مسيحيو فلسطين والشرق الأوسط عموماً بجيرانهم المسلمين، وتعيد مشاهد القداس التى يحضرها المسلمون إلى جانب إخوانهم المسيحيين شجوناً يدغدغ فينا أحلام السلام والتفاهم والتراحم فى عالم اليوم الذى تمزقه الصراعات والتطرف والانغلاق، ومشاهد الترويع.

إن هذا الحدث المتكرر منذ نشأة التجاور التاريخى بين الديانتين، يكشف لنا التفرد الذى صاغته العقلية الشرقية فى تعاملها مع الآخر، هذا النمط الفلسفى والاجتماعى الشرقى المتقبّل للتباين والمتعايش معه، أثبت نجاحه عبر القرون والأزمنة. ففى الشرق الأوسط، يجتمع الإسلام مع المسيحية واليهودية واليزيدية والصابئة والزرادشتية والمندائية واليارسانية الكاكيه والفرق المتفرعة عن هذه الأديان باختلافاتها وتتعايش لمئات السنين، ولم تشهد الأيام بينهم إلا التوافق والانسجام.

وهنا يطرح سؤال؛ لماذا بقيت كل هذه الأديان وحافظت على وجودها رغم انتشار الإسلام فى المناطق التى وُجدت فيها؟ تتضح الإجابة عن هذا السؤال من القيم الإنسانية التى صاغها القرآن الكريم لمفهوم الاختلاف بين الثقافات والأديان، وهى ما عبّر عنها مؤرخ الحضارات ويل ديورانت بــ «خطة التسامح الإسلامي» والتى أسس لها القرآن الكريم فى كم من آية، مؤسساً بها فلسفة تتجاوز التسامح فى مفهومه اللغوى والدلالى إلى بعد أعمق وهو التقبل والتعايش بل ووجوب الحماية لهذا التعدد، كونه دلالة عن سنة إلهية ثابتة. يقول القرآن: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» (هود: 118-119) ويقول: « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية: 22) ويقول: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29) ويقول: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة: 256). فالاختلاف حسب القرآن مراد لله فى ذاته.

هذه السمة القرآنية حرص على تجسيدها النبى محمد صلى الله عليه وسلم حين كرر فى عشرات الأحاديث تحذيره من إيذاء غير المسلمين الذين يعيشون بين المسلمين؛ منها قوله «من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة».

فرض هذا المنهج القرآنى والنبوى نسقا سياسيا وفكريا وفقهيا تحركت الآلة التشريعية فى القرون الأولى للإسلام وفق منطقه، وأُدرجت بذلك كل الأديان التى احتك بها الإسلام فى القارة الآسيوية كالبوذية والهندوسية تحت إطار هذا التعامل. فقد نص مذهب مالك والأوزاعى والثورى ووافقهم الكثير من علماء الإسلام منهم ابن القيم أن عهد الأمان يعقده المسلمون لكل الذين لم يدخلوا فى الإسلام على حد السواء مهما أوغلت دياناتهم فى البعد عن تعاليم الديانات السماوية، وهذا اعتراف من المسلمين بحق أتباع هذه الديانات فى الحياة الكريمة.

هذا المنطق الذى وجّه التشريع والتأسيس للدولة الإسلامية حفظ بقاء هذه الديانات بل أوجبت كل المذاهب الفقهية الإسلامية على أتباعها وجوب الدفاع والقتال من أجل حماية أهل الذمة من غير المسلمين، ولو كلف ذلك المسلمين حياة العديد منهم.

إن ما قلناه آنفا يفسر بقاء مصر ذات أغلبية مسيحية 800 سنة بعد الفتح الإسلامي. هذا التعايش والتآخى المتبادل سطّر صفحات مجيدة فى تاريخ التعايش الدينى خصوصاً بين الإسلام والمسيحية فى الشرق الأوسط بات فيها الطرفان حريصين على سلامة بعضهما البعض.

يذكر أن أحد الولاة أمر بهدم كنيسة فى مصر فكتب الإمام الليث بن سعد إلى الخليفة مطالبا بعزل الوالى لأنه حسب رأى الليث كان مبتدعا فأمر ببناء الكنيسة المهدمة وبناء كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون فى مصر، وفى هذا الإطار، كان الإمام الليث بن سعد يحتج بالآية القرآنية «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا». (البقرة: 114). وفى سياق التعاون والتعايش الأخوى بين الديانتين تذكر كتب التاريخ أن الصليبيين فى حملتهم الأولى أرسلوا للأقباط فى مصر يطلبون مساعدتهم ضد المسلمين بدعوى الأخوّة المسيحية التى تجمع بينهم، فكان رفض بابا مصر قاطعاً وصارماً، واختار الاصطفاف إلى جانب المسلمين، وهو ما دفع الصليببين إلى منع الأقباط من الحج لبيت المقدس بعد سقوطها فى يدهم سنة 1099م انتقاماً من الأقباط لعدم تعاونهم. كما يجدر بنا أن نشير إلى نموذج رائع آخر فى العيش المشترك بين أتباع الإسلام والمسيحية؛ وهو النموذج الفلسطيني، حيث يعيش المسلمون والمسيحيون والسامريون فى تعاون وتسامح وتراحم دون أن تحجر الأغلبية على الأقلية، بل إن ثمة رفضاً فلسطينياً لمصطلح الأقلية والأغلبية فى هذا السياق. وتمتلئ كتب التاريخ بمثل هذه النماذج الحضارية من التعايش والتقبل الدينى للآخر، وتعكس فى مجملها الفلسفة التى تأسست قديماً أيام وثيقة المدينة التى اعترفت لليهود والمشركين بحرية الديانة، وترسخت بالعهدة العمرية، وسياسات الخلفاء والحكام الذين لم يجرأ إلا القليل منهم على المساس بهذا التناغم و التعايش بين ديانات الشرق.

وقد أخذت منظمة التعاون الإسلامى باعتبارها الصوت الموحد للعالم الإسلامى وثانى منظمة دولية بعد الأمم المتحدة على عاتقها مهمة الحفاظ على هذا الإرث الإنساني. وتكريساً لهذا النمط الحضارى المتأصل فى المجتمعات المسلمة، أسست المنظمة إدارة تختص بالحوار بين الثقافات والأديان وهى إدارة الحوار والتواصل التى تحمل على عاتقها تنسيق جهود الحوار والتعايش بين المكونات الإثنية والطائفية بين الدول الأعضاء، وبين الإسلام كديانة جامعة لكل الدول الأعضاء وبقية الأديان العالمية. وتحفل جهود وانجازات المنظمة بالعديد من الفعاليات والأنشطة والقرارات التى اعتمدت خدمة لتأسيس حوار بناء وفعال بين المجتمعات والثقافات، ولعل آخر هذه الجهود عقد مؤتمرين دوليين للتوفيق والحوار بين الأديان، أولها عقد مابين 9 ــ إلى 11 ديسمبر 2017 فى دكار، وسعى لتقريب وجهات النظر بين فرقاء إفريقيا الوسطى المسيحيين والمسلمين لإعادة بناء النسيج الاجتماعى والدينى الذى فككته الحرب الأهلية التى اندلعت سنة 2013، وثانيها عقد ما بين 18 إلى 20 ديسمبر 2017 فى مدينة بانكوك للحوار بين الإسلام والبوذية لجلب القيادات الدينية البوذية والمسلمة وصناع القرار إلى طاولة الحوار والنقاش لإيجاد خريطة طريق تمهد للسلام والتعايش بين الأديان والثقافات.

نقلا عن الاهرام القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإسلام والمسيحية فى الشرق الأوسط تاريخ أخوة متأصلة الإسلام والمسيحية فى الشرق الأوسط تاريخ أخوة متأصلة



GMT 01:42 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

التوريق بمعنى التحبير

GMT 01:38 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

مَن يحاسبُ مَن عن حرب معروفة نتائجها سلفاً؟

GMT 01:34 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

كيسنجر يطارد بلينكن

GMT 01:32 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

غزة وانتشار المظاهرات الطلابية في أميركا

GMT 01:29 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

من محمد الضيف لخليل الحيّة
  مصر اليوم - أحمد حلمي يكشف أسباب استمرار نجوميته عبر السنوات

GMT 10:05 2017 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

الثروة الحقيقية تكمن في العقول

GMT 13:33 2019 الثلاثاء ,12 آذار/ مارس

أفكار بسيطة لتصميمات تراس تزيد مساحة منزلك

GMT 00:00 2019 الأحد ,17 شباط / فبراير

مدرب الوليد يُحذِّر من التركيز على ميسي فقط

GMT 12:26 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

تدريبات بسيطة تساعدك على تنشيط ذاكرتك وحمايتها

GMT 20:58 2019 الإثنين ,07 كانون الثاني / يناير

مؤشر بورصة تونس يغلق التعاملات على تراجع

GMT 16:54 2018 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

"اتحاد الكرة" يعتمد لائحة شئون اللاعبين الجديدة الثلاثاء

GMT 15:16 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

وزارة "الكهرباء" تستعرض خطط التطوير في صعيد مصر

GMT 19:26 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

أمن الجيزة يكشف عن تفاصيل ذبح شاب داخل شقته في منطقة إمبابة

GMT 22:47 2018 الجمعة ,31 آب / أغسطس

أمير شاهين يكشف عن الحب الوحيد في حياته

GMT 00:49 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

أيتن عامر تنشر مجموعة صور من كواليس " بيكيا"

GMT 04:18 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

اندلاع حريق هائل في نادي "كهرباء طلخا"

GMT 22:56 2018 السبت ,02 حزيران / يونيو

فريق المقاصة يعلن التعاقد مع هداف الأسيوطي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon