توقيت القاهرة المحلي 12:56:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كنت هناك.. فى لبنان

  مصر اليوم -

كنت هناك فى لبنان

بقلم:جميل مطر

صحيح أنه لم تعد هناك دولة عربية تستقبلك أيها المواطن العربى بابتسامة، ولكل منها أسبابها وتبريراتها. صحيح أيضا أن زوارا كثيرين من العرب لبلاد عربية قضوا أيامهم الأخيرة فيها يرددون مع الفنانة الرائعة فيروز أغنية تغرد فى مطلعها بالكلمات التالية «أنا صار لازم ودعكن». كنت أحد هؤلاء الزوار وكان لبنان البلد العربى الذى فشل فى إقناعى بتمديد إقامتى. تغير لبنان أم تغيرت أنا أو تغيرنا كلانا حتى ضاقت بنا فسحة اللقاء وغابت كل المتع والفرص وحل الضيق والقلق محل السعادة والبهجة.
***
كنت أسمح لنفسى ببعض الغضب أمارسه على استحياء الضيف الواثق من حب مضيفه وكرمه. لا أظن أننى فى تلك الشهور الأخيرة من العام الماضى تركت لبنانيا أعرفه إلا واستفسرت منه عن دوافع ما يفعل. بعض هذا الذى يفعله كان غير مألوف بالنسبة لى، أنا الضيف الذى يعرف عن لبنان كل ما يستحق أن يعرفه محب عن حبيبته. كان لبنان يتدهور معنويا قبل أن يصاب بعجز مادى خطير. لن أحمل لبنان فوق ما يحتمل، ولبنان بالفعل لم يعد يحتمل. لكن يجب أن أعترف أننى خرجت من لبنان قبل انتهاء زيارتى بأيام عدة وأنا أجاهر بالغضب من شعب يترك قادته يقودون بلادهم إلى جحيم مؤكد ومن طبقة سياسية لا تبالى، أو لعلها حسب ما حللت، مطمئنة إلى أسطورة أن لبنان قارب فى الأصل مصمم ضد الغرق، طوائفه عمدان راسخة تنحنى للعواصف ولا تنكسر، وثرواته مخبأة بعناية فائقة فى مغارات نائية لن تفتح أبوابها يوم مجاعة لا قدر الله إلا لقلة من الناس تحفظ كلمة السر. مشيت من لبنان رافضا الأسطورة ومتوقعا كارثة وحاملا أسئلة لم تجد بعد انقضاء كل الشهور الماضية وعناء التقصى إجابات شافية.
***
أزعم، وبفخر، أننى تعرفت على امتداد رحلتى الفكرية المزودة بروابط نسب على نساء ورجال فى لبنان وضعتهم دائما فى مصاف أرقى العقول التى تعاملت معها خلال الرحلة الأخرى الأشمل، رحلة الدوران حول العالم. لا خوف عليهم من هكذا أحكام أن تصيبهم غطرسة وغرور فلديهم ما يكفى وزاد رغم تفاقم الكارثة الاقتصادية التى حطت بلبنان واختلطت بكوارث أخرى سياسية واجتماعية. أذكر مناقشة دارت فى بيت ضم بعض شباب الحرب الأهلية. دارت المناقشة كغيرها مما كان يدور كل ليلة تحت وابل أصوات الصواريخ والقنابل المتفجرة. كانت هناك بين الحضور شابة ناضجة تحمل سلاحا أؤكد أنه كان أثقل من وزنها وقدرتها على حمله لأكثر من دقائق معدودة. تدخلت فقالت إنها تحارب لا لتحقق هى وطائفتها نصرا حاسما. النصر الحاسم لفريق لبنانى يعنى هزيمة أو نكسة للفكرة اللبنانية. نتيجة يجب تفاديها. لذلك أحارب بعض الوقت وأتسلى بعضا آخر.. عشت مدللة مثل كل من تراهم هنا ولا أحد فينا مستعد أن يفقد نصيبه من الدلال فى ظل نظام بديل غير النظام الذى نعيش فى ظله، وسوف نعود إليه، وإن معدلا، فى نهاية هذه الحرب، أو أية حرب.
***
تغير اللبنانيون، وبخاصة هؤلاء الذين يتصدرون مهنة الصراع، أم تغيرت ظروف ومواقع وتوازنات فرضت التغيير على اللبنانيين، وبخاصة هذا الصنف. المثير فى الموقف الراهن أن قطاعات واسعة أو مؤثرة فى الشريحة الأعلى من الطبقة السياسية آلت على نفسها رفض التغيير. قرروا أن يختاروا من أساليب الصراع الأهلى أو مع الخارج ومن أدواته ما يناسب الظروف ولكن لن يتوقف الصراع ولن تهدأ النفوس. اجتمع أهل الإقليم العربى مع أغلب قادة العالم على امتداد فترة انتفاضة السابع عشر من تشرين/أكتوبر للضغط على الطبقة السياسية اللبنانية لتتغير ولم تتغير. سألت، أهو العناد، والنية فى الاستمرار، حتى آخر معدة خاوية فى الطائفة؟ صديق مطلع ومعايش أجاب. نعم العناد موجود، ولكن لا تنسَ اليأس. اليائس وكل من عاش فترات البطون الخاوية لن يقدم على التغيير والتطوير. قلت اليائس من هذا النوع لا يستسلم وبالتالى لا تغيير بالرضا أو بالإجبار. قال صديقى، اتفق معك من حيث المبدأ ولكنى أرى اليائس هذه المرة يستسلم ومستعد للتغيير أو على الأقل يتظاهر بالرغبة فى التغيير. أنت يا صديقى غاضب لأنك رأيت اللبنانيين لا يتصرفون كما عودوك أن يتصرفوا. هم بالفعل يتغيرون وأنت غير مصدق.
***
سألت إن كانت لبنان تتغير بتأثير تحولات، وليس فقط تغييرات، طرأت على أوضاع المنطقة وربما فى العالم الأوسع. أجاب صديقى المطلع دوما فقال دعنا نقارن التاريخ بعضه ببعضه ونحكم. كان لبنان فى العهود التى عرفته فيها عن قرب لذيذ وممتع، أهم ساحة فى الشرق الأوسط تدار فوقها أهم المعارك السياسية والإعلامية فى الإقليم. كانت بيروت وجبال لبنان من المراكز الأهم فى منظومة الجاسوسية العالمية. أنا شخصيا عشت أكثر من صيف فى قرية لا تبعد كيلومترات معدودة عن أكبر قاعدة أمريكية لتدريب المتخصصين فى الشئون العربية فى قطاعات الدبلوماسية ووكالات الاستخبارات. عشت قريبا منها عندما كانت تسكن قمة جبل متاخم لقرية شملان فى جبل لبنان، وعشت مرة ثانية قريبا منها عندما انتقلت تحت التهديد من لبنان إلى مقر مؤقت بالقرب من تونس العاصمة.
عشت فى بيروت عندما كانت مصر تدير منظومتها الإعلامية الإقليمية من لبنان. هناك أدارت الدبلوماسية المصرية الصراع الدولى حول حلف بغداد، ولا أبالغ إن قلت إن الحلف سقط فى بيروت ولحق فى أعقاب سقوطه سقوط نظام الحكم فى بغداد وبعده دخل الشرق الأوسط برمته عهدا مختلفا. من بيروت، كما أعلم، دارت معارك سياسية تاريخية لانتزاع سوريا أو حمايتها أو حصرها داخل حدود لا تتعداها. هناك فى بيروت إرث عشرات المعارك السياسية. كانت بحق الساحة الأشهر بين كل ساحات الصراع فى المنطقة قبل أن تتعدد الساحات فى كل أنحاء شمال أفريقيا وفى منطقة الخليج والقرن الإفريقى وفى اليمن وسوريا والعراق والسودان. انتهز من احتكار لبنان لفن تسخير أرضه وإمكاناته البشرية والإعلامية لكل من يريد مقابل ثمن.
***
فى وقت من الأوقات كان لبنان أحد أهم المراكز المصرفية فى العالم وبالتأكيد أهمها فى الشرق الأوسط. اليوم تقوم مراكز أهم كثيرا فى دول عربية وغير عربية وأشك أنه سيكون فى الإمكان استعادة المكانة التى كانت لبيروت كمركز مالى وبخاصة بعد أن تولى اللبنانيون بأنفسهم تسديد ضربات قاتلة إلى مصرف لبنان المركزى وسياساته الاقتصادية والمالية. وفى وقت من الأوقات كانت بيروت مركزا يقود أقوى وأهم منظومة إعلامية فى المنطقة. انفرطت المنظومة الإقليمية لتلحق بها بعد قليل المنظومة اللبنانية ذاتها. وفى وقت من الأوقات كانت تصاغ فى لبنان هويات وأيديولوجيات عديدة أفادت دولا كانت فى مرحلة النشأة والتعرف على الذات ونشرت الوعى بحقوق كانت على وشك أن تضيع وتداس بالأقدام. اللبنانى أدار بنفسه وأحيانا منفردا معارك لتحرير فلسطين قبل أن يتدخل بالفوضى أو التهريج أو بالقمع من بدد جهد أمة ويعمل الآن ليخنق أحلامها.
***
مواقع الفتنة والجمال وراحة النفس والبدن راحت أو تغيرت. فندق البريستول صفى أعماله والحمرا استسلمت ليد تقبح ولا تجمل واللبنانى تضيق به السبل، حتى الهجرة. اللبنانى وريث العبقرية الفينيقية متردد وغاضب ومتألم. وأنا مثله.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كنت هناك فى لبنان كنت هناك فى لبنان



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:49 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
  مصر اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 16:13 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

"فولكس واغن" أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية
  مصر اليوم - فولكس واغن أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية

GMT 00:48 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

محمد رمضان يتصدر مؤشرات محرك البحث "غوغل"

GMT 23:26 2020 الجمعة ,17 إبريل / نيسان

السنغال تُسجل 21 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 11:27 2020 الإثنين ,02 آذار/ مارس

مجلة دبلوماسية تهدى درع تكريم لسارة السهيل

GMT 12:58 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

خطوات تضمن لكٍ الحصول على بشرة صافية خالية من الشعر

GMT 16:39 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

الحكومة المصرية تحصل على منح بـ 635 مليون جنيه
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon