توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حلم لم يتحقق

  مصر اليوم -

حلم لم يتحقق

بقلم:جميل مطر

كان حلما وكاد يتحقق. عشت فجر حياتى بين جدران وبين كبار السن، أحن أحيانا إلى بعضها وإلى ذلك النوع من كبار السن أيضا. ولدت ونضجت فى حمايتها وحمايتهم. أعرف فى أى بيت ولدت. أسمع أن معظم مواليد مصر فى تلك الأيام خرجوا إلى الدنيا على أيدى «دايات» وبين جدران بيوت، نادرا على كل حال أن دخلت أمهاتنا المستشفيات للولادة أو لأسباب أخرى. سمعت عن المستشفى لأول مرة وأنا فى الرابعة من عمرى. كانت إحدى خالاتى فى قاع السلم تبلغ أمى أن شقيقتهن الصغرى نقلوها إلى مستشفى فى حلوان. ثم اختفت عنى أخبارها، اختفت على الأقل عن مسامع الصغار. لم أعد أرى الخالة المريضة فى المناسبات ولا فى الزيارات بين الشقيقات ولا عند جدتى فى استدعاء أو آخر. أظن أنه فى مرحلة أو أخرى وقع تحذير لا مصدر محددا له يمنعنا من الحديث عنها أو النطق باسمها فى حضرة جدتى. أذكر، وللغرابة لم أكن تجاوزت السادسة، اجتماعا لكل الشقيقات برئاسة جدتى، الحاجة جمال، تداولن فيه فى مستقبل أبنة شقيقتهن الصغرى. أدركت وقتها أو فى وقت لاحق، إن ابنة خالتى كانت موضوع الاجتماع بينما كنا، أنا وابنة خالتى، نلعب فى ركن من أركان الغرفة لعبة أطفال. فهمت مما تناثر على مسامعى يومها فى ذلك الاجتماع أو فى بيتنا بين أمى وأبى بعد عودتنا من بيت العائلة أن العائلة قررت بعد نقاشات طويلة أن يعهد لخالتى (ع) برعاية أبنة شقيقتها باعتبار أنها المؤهلة أكثر من غيرها فهى أم لمن هن فى عمرها. قررت العائلة أيضا أن يستمر العمل بهذا القرار إلى أن تتأكد جدتى من أن والد الطفلة قادر على القيام بهذه المهمة وحده أو مع زوجة إذا اختار أن يفعل ذلك.
***
قلت حلمت وتحقق بعض الحلم. أما الحلم فكان من جزئين. فى الجزء الأول أعيش حتى أصل إلى عمر وهيبة ووقار كبار السن من الرجال فى عائلتى الممتدة. الرجال فى عائلة أمى قليلون على عكس الرجال فى عائلة أبى. اللافت فى رجال العائلتين أن جميعهم ظهروا للأغراب أكبر عمرا من الحقيقة. ظهروا فى السبعين أو الثمانين وهم لم يتجاوزوا الستين، وأغلبهم رحلوا فى هذا العمر المبكر أو قبل الوصول إليه. لم يقتصر الأمر على العائلتين ففى الحى الذى نشأت فيه مراهقا لا أذكر أن كان بين أهل أصحابى من تجاوز عمره منتصف السبعينات أو اقترب من الثمانينات. مرات قليلة كان يمر بشارعنا كهل يتوكأ على عصاه. يمشى ببطئ شديد، تكاد قدماه لا تتخليان عن ملامسة الأسفلت وتتوقفان عن الزحف بعد كل خطوتين أو ثلاث. ما أن يظهر على قارعة الطريق حتى نتوقف عن اللعب وتنخفض أصواتنا احتراما. كنا نسمع من أهالينا عن بطولاته وغزارة معلوماته وعمق حكمته الكثير من القصص والروايات. سمعت من نادل المقهى الواقع عند نهاية شارعنا أن الرجل العجوز لا يبخل بعلمه ونوادره وإرشاداته على أحد من جلساء المقهى. كانت لديه الإجابة على كل سؤال والنصيحة لكل محتاج.
***
أظن أن لا أحد غيرى عاش يحلم بأن يكبر بسرعة ليصل إلى عمر تكتمل عنده عناصر هذا العمر المتقدم وهى الهيبة والحكمة والرأى السديد. كلنا فى مرحلة أو أخرى كنا نتمنى وصول المرحلة التالية من العمر وبسرعة. كم مرة لعبنا ونحن صغار لعبة الكبار. الصبيان يرسمون الشوارب ويخنقون رقابهم بأربطة العنق ويفردون عضلات صدورهم ويقفون على أطراف أصابعهم ليكونوا أطول من البنات. أما البنات فيستعرن أحذية بكعوب ويلطخن الفم ومحيطه بأحمر شفاه وتتدلى من عند أكتافهن حتى الأرض حقائب نسائية تحمل علامة شركات فرنسية شهيرة، يمشين فتنجر وراءهن تمسح أرض الملعب. ولكن لا أحد سواى اختار أن يرتدى ثياب الوقار ومنها البابيون محل ربطة العنق التقليدية تعقدها إحدى الفتيات وينثر فوق شعره مسحوقا أبيض ويمسك بكراسة وقلم ويربت بعطف على ظهور الصبيان والبنات.
***
كبرت منتقلا من مرحلة فى العمر إلى أخرى بدون مشكلات كبيرة، وفى كل مرحلة شعرت بأن الزمن يتدخل لحرمانى من تحقيق حلمى، أن أتقدم فى العمر حتى أصير فى صورة الوقورين الذين رسمت لهم صورا شتى فى مخيلتى. فوجئت وغضبت حين اكتشفت أننى سوف أكبر وأشيخ فى الكبر محروما من شعر أبيض كثيف يغطى الرأس منسجما مع مختلف متطلبات الحكمة والهيبة. لم أصل الخامسة والعشرين إلا وكادت الصلعة تكتمل، ومعها كاد يكتمل أيضا انزعاجى من ربطات العنق بكافة أشكالها. أظن أنه لولا تقاليد المهنة، وهى الدبلوماسية، لتخليت عن ربطة العنق فى وقت مبكر. أظن أيضا أننى كنت أقل تعاسة عندما عدت من الدبلوماسية إلى قاعات المحاضرات طالبا لا يهتم كثيرا بشروط فرضها عمر معين. لن أنسى على كل حال لحظات اتخاذ قرار السماح للجراحين بإجراء عملية خطيرة بالمعدة وما أزال فى العشرينات. كنت يومها اتصرف كمن تساوت فى حساباته الحياة مع الغياب عنها.
***
تحقق بعض الحلم، علما بأن ما تحقق لا يتطابق تماما مع تفاصيل الحلم. لا شعر أبيض كثيف كما فى الحلم، بل لا شعر إلا القليل جدا. لا عصا فى اليد أو معلقة فى الذراع لاستند عليها فى المشى، لا جسد متعب يدعم ادعاءات الهيبة والوقار التى استعارها الحلم من صور وأساطير الأقدمين، أو استعان لها بأشكال مرتادى المقاهى من المتقاعدين من كبار الموظفين وشيوخ القبائل وزعماء الطوائف. بمعنى آخر، أصدقائى، بنينا وبنات، هم الآن أمام بقايا شباب فى جسم رجل، بقايا شباب رفضت الانحسار أو الانكسار. وبقايا طفولة التصقت مع صفات أخرى شكلت معا شخصية مبتكرة قال عنها المحبون وبعض الاخصائيين إنها استعصت على اكتمال النضج. خليط من بقايا مرحلة شباب لم تنكسر روحه وبقايا طفولة متأخرة ومتمردة وبوادر شيخوخة مترددة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حلم لم يتحقق حلم لم يتحقق



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 13:35 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء
  مصر اليوم - استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt