توقيت القاهرة المحلي 13:52:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أوباما والأزمة الأميركية الكبرى

  مصر اليوم -

أوباما والأزمة الأميركية الكبرى

بقلم : عبد المنعم سعيد

القراء من العرب لمذكرات الرئيس الأميركي باراك أوباما، تسرعوا كثيراً عندما قفزوا إلى معالجته لقضايا الشرق الأوسط، وما جرى أثناء «الربيع العربي» المزعوم. القضية مهمة ولا شك، وتستحق المتابعة والاهتمام، سواء إذا ما قدر لنا قراءة مذكرات من شاركوا فيها منا، أو تعاملوا معها بشكل أو آخر، أو يعيشون الآن نتائجها وما أدت إليه من مرارات وأحقاد وخسائر بشرية ومادية لا تحصى. ولكن الذهاب لها مباشرة يؤدي إلى فقدان التسلسل الفكري للمؤلف الذي أصبح رئيساً للدولة الأميركية بكل ما لديها من قدرات، ليست فقط سياسية واقتصادية وعسكرية، ولكنها قبل ذلك وبعده فكرية في الأساس. الفكر هنا يشكل مفاتيح أميركا، وإنما أيضاً عندما يستخدم لفهم العالم، فإن النتيجة المختلفة لا تعبر عن انغلاق بقدر ما تفصح عن اختلاف جذري في تطور الأمم ومراحلها التاريخية وثقافاتها عبر عصور وأزمان. والأميركيون في عمومهم يتصورن أحياناً أنهم «العالم» ذاته، فبطولة «العالم» للملاكمة هي بطولة أميركية في حقيقتها؛ وفي الأوساط الفكرية الأميركية، فإن المتابع الذكي لن يغفل أن الأميركيين أحياناً ينقسمون إلى جماعة تمثل الأغلبية تعتقد أن أميركا كبيرة بفضائلها على الدنيا بأسرها؛ وجماعة أقلية على اليسار واليمين معاً تظن أن أميركا قليلة جداً في عالم سبقها بالتاريخ والحضارة.
ولمن درسوا العلاقات الدولية في المعاهد الأميركية يجد أن أول ما يستمع إليه الطالب أن هناك مدرستين في فهم سياسات الدول: المدرسة المثالية التي تقوم على القيم التي أرساها المؤسسون الأوائل للدولة الأميركية، والتي تصلح لإصلاح العالم كله وجعله غنياً وفعالاً؛ والمدرسة الواقعية التي ترى أن الشر أصيل في التجمع البشري، ومن ثم فإن القوة والسلطان لا بد منهما للترويض والإغواء والإخضاع حتى يكون هناك غنى وفعالية. كلتا المدرستين في حقيقتهما لها نقطة التقاء عند «التبشير» بعالم مختلف يجد الأميركيون صعوبات جمة في فهم لماذا لا يتبعها العالم بكل ما فيها من حرية وخير وعدل، ولذا فإن استخدام القوة قد يكون محموداً لتغيير النظم؛ أو استخدام الوسائل التي تحرك الشعوب لإدراك ما لم يدركه أحد للحكمة الأميركية.
أول صفحات مذكرات أوباما تضعه مباشرة في المدرسة المثالية الأولى من دون إدراك لتلك الصلة الموجودة مع المدرسة الثانية؛ والغرض واضح وهو ما يراه مقارنة واضحة بين فترتي حكم الرئيس أوباما والرئيس ترمب. المدهش أن أوباما بعد ذلك حينما يدلف إلى السياسة العملية يتغافل عما أدركه بالفعل أنه ليس هكذا تُؤتى الموضوعات، وأن القضايا المختلفة محاطة بعناصر ومتغيرات معقدة لا تجعلها في البساطة التي كان يعتقد أنها لأول وهلة من نتائج الجهل، وعدم المعرفة، الذي هو التفسير الأول للمثاليين، فإذا ما كان هناك علم وشروح منطقية، فإن النور أو التنوير سوف يحدث لا محالة، وتحل العقد، ولا يبقى غموض. سوف نترك جانباً الآن رؤية أوباما لما حدث في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي، وما قبله، وكيف كان ينظر إلى المنطقة. ولكن ما يهمنا في مقامنا هذا هو رؤيته للساحة السياسية الأميركية التي يتصورها من وجهة نظره تقوم على قواعد ديمقراطية ليبرالية يجري فيها التوافق ما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في سهولة ويسر، خصوصاً إذا كانت القضية هي الأزمة المالية الكبرى التي جرت في خريف عام 2008، وكانت أحد أسباب نجاح أوباما في الانتخابات الرئاسية. فبالإضافة إلى فشل سابقه جورج بوش الابن في حربين - أفغانستان والعراق - فإنه وقد بات عليه ترك البيت الأبيض، فإنه قد أخذ الولايات المتحدة الأميركية إلى أكبر أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير الذي كان في ثلاثينات القرن الماضي.
كيف حدث ذلك؟ لم تحدث له مراجعة جدية لا من جانب أوباما، ولا من جانب الليبراليين الأميركيين حول مدى الكفاءة التي يمكن أن تمنع بها الفكرة الليبرالية حدوث الأخطاء المروعة بهذا الشكل. من زاوية أوباما، الذي لم يؤيد الحرب الأميركية على العراق (فيما بعد سوف نعرف أنه كان يؤيد حرباً من نوع آخر على النظم السياسية)، وإنما رأى فيها انصرافاً عن الحرب الأصلية في أفغانستان التي أتى منها إرهاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، فإن تصحيح الأمر يكون بالتركيز على الثانية بدلاً من الأولى. ولكن القضية هنا هي الأزمة المالية التي توصل أوباما إلى ضرورة إصدار قانون للانتعاش الاقتصادي أو «The Recovery Act»؛ وهو قانون مر بسهولة من مجلس النواب الذي فيه أغلبية ديمقراطية، ولكن مروره بمجلس الشيوخ يتطلب أغلبية قدرها 60 صوتاً، بينما الديمقراطيون يحتاجون أربعة أصوات إضافية من الجمهوريين حتى يمر القانون، ويمكن إنقاذ الولايات المتحدة والعالم.
هنا فإن إقرار القانون يمثل لحظة كاشفة للعجز الديمقراطي والليبرالي للتعامل مع أزمة أميركية. فالحقيقة هي أن قسماً واسعاً من الأميركيين لم يكن يحبذ انتخاب رجل أسود إلى قيادة الولايات المتحدة؛ وأن هذا القسم طالما أن انتخاب أوباما قد حدث فلم يكن هناك بد من العمل على إفشاله. أوباما يقرر في مذكراته أن مشكلته لم تكن بشكل كامل مع أعضاء مجلس الشيوخ، وإنما في حقيقة الوضع الذي يضع عضو مجلس الشيوخ في مواجهة جماهير ولايته التي سوف تراه ضعيفاً ومتهاوناً ورخواً في الضغط على رئيس لا يريدونه، حتى ولو قررت الأغلبية في ولايات أخرى انتخابه. هذه الحقيقة دعم فيها بشدة إعلام محلي وإقليمي وفي الدولة الأميركية استفاد كثيراً من الثورة الإلكترونية وأدوات التواصل الاجتماعي التي تضع بحوراً من الكراهية بين نحن وهم، أصحاب الحق والفضيلة والأصول الأميركية الحقة، والآخرين من الأنجاس والمنحرفين والمتهاونين في الحقوق الأميركية. أوباما في النهاية لم يقدم حلاً ليبرالياً لمشكلة مستعصية، وإنما كان عليه ببساطة أن يقوم برشوة أربعة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين بإقرار مزايا لولاياتهم في حزمة إجراءات انتعاش الاقتصاد، ليس لها علاقة به، ولا تسبب بالضرورة انتعاشاً. المسألة كانت عملية ليس لها علاقة بالنظرية الليبرالية التي ترى أنه داخل المجتمع الديمقراطي يوجد يمين ويسار ووسط، وأن هذا الأخير يتداخل فيه المعتدلون من الطرفين، ويكونون أغلبية تؤدي إلى الخروج الآمن للدول في أوقات الأزمات والخطر، وحتى في أيام الازدهار والحبور. كانت أميركا في الواقع تمارس السياسة القائمة على الضغط والرشوة، في وقت كان الانقسام ينحر فيها في موضوعات وجودية.
إذا كان ذلك كذلك بالنسبة لأميركا، وأن انتصار ترمب أشعل حرباً جديدة بين أنصار العولمة والقوميين داخل أميركا، بالإضافة إلى انقسامات البيض والسود، والجمهوريين والديمقراطيين، فكيف يكون الحال عندما تصل الديمقراطية إلى دول كلها طوائف، وانقسامات مذهبية وعرقية ودينية، وهل يمكن لهذه الدول أن تعبر خط السلامة إلى مشروعات تنمية قومية مشتركة؟
نتيجة مشروع أوباما التنويري في الشرق الأوسط قاد إلى كارثة كبرى كان يستطيع أن يراها داخل أميركا ذاتها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوباما والأزمة الأميركية الكبرى أوباما والأزمة الأميركية الكبرى



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

الملكة رانيا بإطلالات شرقية ساحرة تناسب شهر رمضان

عمان ـ مصر اليوم

GMT 00:36 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

ميسي يتحدث عن "العامل الحاسم" في اعتزاله
  مصر اليوم - ميسي يتحدث عن العامل الحاسم في اعتزاله

GMT 16:39 2019 الجمعة ,18 كانون الثاني / يناير

تعرف على أفضل انواع "الأرضيات الصلبة" في الديكور المنزلي

GMT 04:37 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

نادين نجيم تتألق في حفلة Bulgari Festa في دبي

GMT 14:32 2017 الثلاثاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

الآثار تصدر الجزء الأول من سلسلة الكتب عن مقابر وادي الملكات

GMT 10:34 2017 الأحد ,23 إبريل / نيسان

نيرمين الفقي تنشر صورة جريئة تكشف عن مفاتنها

GMT 15:16 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الوطني يرتدي الزي الجديد في تصفيات أمم أفريقيا

GMT 08:14 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيندي" تغزو عالم التزلج على الجليد بمجموعة فريدة

GMT 10:17 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

قائمة نيويورك تايمز لأعلى مبيعات الكتب في الأسبوع الأخير

GMT 07:52 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة إعداد فطيرة التين باللوز المحمص

GMT 13:47 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

دار MARVINI للمجوهرات تطرح المجموعة الجديدة للمرأة الجذّابة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon