توقيت القاهرة المحلي 10:27:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ما يعنينا وما لا يعنينا!

  مصر اليوم -

ما يعنينا وما لا يعنينا

بقلم - حازم صاغية

ترتفع أصوات في العالم العربيّ تستهجن الاهتمام بالحرب الروسيّة الأوكرانيّة الراهنة، وتحديداً بمأساة أوكرانيا. الحجّة أنّ لدينا، نحن العرب، مآسينا في فلسطين والعراق واليمن (وغالباً ما لا تُذكر سوريّا ولبنان إذ يصعب اتّهام أميركا وإسرائيل وبلدان الخليج بمآسيهما).

إذاً، وبكثير من اللطم الممزوج بالإدانة الأخلاقيّة، لماذا الاكتراث بمأساة بعيدة؟
لوهلة أولى، نضع جانباً اختلافات التقدير السياسيّ والانقسام حول الحرب الحاليّة. فالأخيرة تعنينا بذاتها لمجرّد كونها حدثاً يحدث في عالمنا، لكنّها تعنينا خصوصاً كونها حدثاً يحدث في أوروبا. فحربا 1914 و1939 اللتان اندلعتا في تلك القارّة، وبين أبنائها، صارتا حربين «عالميّتين» كما نعلم جيّداً. ومَن هم متشائمون بيننا يتحدّثون اليوم عن «حرب عالميّة ثالثة» قد ينتهي إليها هذا النزاع الدائر في أوكرانيا، أي في أوروبا. أمّا أولئك الذين يفوقونهم تشاؤماً، وربّما حكمةً ومعرفةً، فبدأوا ينبّهوننا إلى أنّ الحرب المحتملة قد تأخذ شكلاً نوويّاً!
فأوروبا لا تزال مركز العالم، وإن انتزعت آسيا والصين في العقدين الأخيرين بعضاً من هذه المركزيّة. أمّا نحن فتأثّرُنا بما يحصل فيها يفوق تأثّر سوانا من مناطق وشعوب: الحرب العالميّة الأولى صنعت معظم دولنا. انهيار السلطنة العثمانيّة كان وثيق الصلة بتلك الحرب. الحرب العالميّة الثانية صنعت معظم استقلالات بلداننا. معركة العلمين، على حدود مصر مع ليبيا، كانت إحدى معاركها الأساسيّة والحاسمة. قيام إسرائيل نفسها ما كان ليكون ممكناً لولا المحرقة النازيّة ليهود أوروبا... تعداد الأمثلة التي تدلّ على تأثّرنا بأحداث تلك القارّة وبحروبها لا تتّسع له المجلّدات، وإن كانت لا تلغي، بطبيعة الحال، أنّ ما يحصل عندنا يؤثّر أيضاً في أوروبا: يكفي تذكّر النتائج التي ترتّبت على ارتفاع أسعار النفط في أواسط السبعينات، أو الصلة الوثيقة بين موجات اللجوء والهجرة وبين الانبعاث الشعبويّ... هذا من غير أن نذكّر بتواريخ أقدم عهداً، كالحروب الصليبيّة والنزاع على أسبانيا والمواجهات العثمانيّة – الأوروبيّة، وقبلها جميعاً توسّط العرب والمسلمين بين ثقافة الإغريق وبلوغها إلى أوروبا.
كلّ ذلك يُفترض أنّه من البديهيّات التي لا تعاملها الأفكار الأبرشيّة والانعزاليّة بوصفها بديهيّات.
والحال أنّ الوجهة هذه لا تعدو كونها تتويجاً لمسار تاريخيّ مديد بدأ بتقريب أمكنة العالم وتوحيد أزمنته التي صارت خطّيّةً بعدما كانت دوريّةً، بحيث أعطي الفعلُ الإنسانيّ وظيفة كانت حكراً على تقلّب الفصول ودوران الأفلاك. هكذا، وفي سياق عمليّة كهذه، حلّ التغيّر محلّ الثبات، وغيرُ المتوقّع محلّ المتوقّع.
لاحقاً، مع الثورة العلميّة ومع الرأسماليّة الصناعيّة التي وحّدت العالم، بالغزو طبعاً، ولكنْ أيضاً بسكك الحديد والقنوات المائيّة والمدارس وسواها، حصلت النقلة النوعيّة الكبرى في تصوّر الكون واحداً والزمن واحداً. لقد ضُغط الزمن كما ضُغط المكان، بالقطار والسيّارة والطائرة والتليفون والراديو والتلفزيون، قبل أن تضيف الثورة المعلوماتيّة والعولمة الاقتصاديّة مساهماتهما، من الفاكس إلى الإنترنت، ومن الكابلات البحريّة إلى الأقمار الصناعيّة. وفي هذا كلّه أدّت التجارة دورها النوعيّ تبادلاً وصياغةً لحياة البشر وأذواقهم ومتطلّباتهم...
ضدّ هذا كلّه شكّلت السياسة، بأعرض معانيها، حلبة الصراع التي تعترض طريق العالم إلى وحدته. والصراع هذا، وإن حرّكه قدر ليس قليلاً من التفاوت ومن العنف اللذين ينطوي عليهما مسار الوحدة، فقد وظّفه القوميّون والشعبويّون، في الغرب كما في الشرق، لا لوقف حركة الوحدة مع الآخر فحسب، بل أيضاً لوقف المعرفة بهذا الآخر، دع جانباً التعاطف معه في مآسيه.
إنّ نظريّة «مآسي أوروبا لا تعنينا» وجدت امتحانها الأكبر في تجاهلنا أموراً كالمحرقة اليهوديّة بحجج من نوع أنّنا لم نرتكبها، وأنّنا، نحن العرب، مَن دفع ثمنها. وهي حجج قد تفسّر جزئياً ذاك التجاهل لكنّها لا تبرّره إطلاقاً. أمّا الامتحانات التي توالت، وكنّا نرسب فيها، الواحد تلو الآخر، فكانت كثيرة جدّاً، يجمع بينها عنوان مشترك: النظر إلى الكون من ثقب «قضايانا»، وهي تارةً «مركزيّة» وطوراً «بوصلة».
وهذا لئن ضيّق نظرتنا إلى العالم، فالأخطرُ أنّه عاد على قضايانا نفسها بالهزائم والإخفاقات. ذاك أنّ نظريّة «مآسيهم لا تعنينا» تتواطأ فعليّاً مع الذين يتسبّبون بتلك المآسي، أكانوا الفاشيّة مرّة، والشيوعيّة السوفياتيّة مرّة أخرى، والروسيّة البوتينيّة اليوم. وهؤلاء لم يربحوا، ولن يربحوا، لأسباب في عدادها أنّ العالم لا يعنيهم. هكذا يقودنا عدم الاكتراث إلى شراكة من نوع آخر، شراكةٍ في هزائم أولئك المهزومين بعد مشاركتهم نظريّةَ إدارة الظهر إلى العالم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما يعنينا وما لا يعنينا ما يعنينا وما لا يعنينا



GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

GMT 22:12 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

استراتيجة ترمب لمكافحة الإرهاب وتغيرات تكتيكية

GMT 22:05 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الحليب والسلوى

GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt