توقيت القاهرة المحلي 10:27:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصاروخ ضدّ الرغيف...

  مصر اليوم -

الصاروخ ضدّ الرغيف

بقلم:حازم صاغية

فيما كان الزمن ينتقل بنا من عام إلى عام، تحدّث كيم جونغ أون ففهمَ كثيرون أنّه قد ينتقل بلده من أولويّة الصاروخ إلى أولويّة الرغيف. الزعيم الكوريّ الشماليّ، مختتماً سنته العاشرة في السلطة، قال إنّ هدف بلاده للسنة الجديدة إطلاقُ التنمية الاقتصاديّة وتحسين حياة الناس، لأنّ كوريا الشماليّة تواجه «صراعاً كبيراً بين الحياة والموت».
هذا ما قاله هو بلسانه ولم ينسبه إليه إعلام كوريا الجنوبيّة المتّهم بـ«تلفيق الأخبار» عن الجارة الشماليّة.
البعض ربّما فهموا من كلام كيم أكثر ممّا قصد، لكنْ يبقى أنّه، وعلى عكس عادته، لم يلوّح بالصواريخ هذه المرّة ولا وجّه «رسائل ناريّة» إلى الولايات المتّحدة وكوريا الجنوبيّة. ويبدو أنّ الأوضاع في بلده، في ظلّ قيادته، لم تعد تحتمل هذا الترف. ذاك أنّ العزلة التي مرّ عليها عامان، بسبب جائحة كورونا وإغلاق الحدود مع الصين، مصدر كلّ شيء تقريباً، جعلت السيّئ أسوأ. لقد ذكّرت العالم بما شهدته التسعينات الكوريّة إثر انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وتوقّف معوناته. حينذاك حلّت مجاعة أودت بمئات الآلاف، وثمّة من قدّر ضحاياها بثلاثة ملايين من أصل 25 مليوناً. «آذار الشاقّ»، الذي سُمّيت به تلك الكارثة، حمل كيم على مصارحة شعبه للمرّة الأولى بوجود «نقص في الغذاء» وبأنّ الخطّة الزراعيّة المعتمدة خذلت الشعب وخالفت توقّعات القيادة. لكنْ، وللتخفيف من وطأة المصارحة، راحت تتكاثر الأخبار الصادرة عن بيونغ يانغ والتي تقول إنّ العالم كلّه على شفير الانهيار، وبالطبع فمعرفة الكوريّين الشماليّين بما يجري في العالم الخارجيّ مهمّة تكاد تكون مستحيلة.
والحال أنّه بات في وسعنا أن نتحدّث، بعد تجارب كوبا وفنزويلّا وإيران وتجربة لبنان منذ عامين، عن معادلة شاملة تضع الصاروخ، أو النزعة الحربيّة عموماً، في مقابل الرغيف: إمّا هذا أو ذاك. أمّا ردّ التمسّك بالصاروخ على حساب الرغيف إلى الكرامة فمنطق لا يردّده بعد اليوم إلاّ اثنان: الخبيث المستفيد من صنع الصاروخ (ومن احتكار الرغيف) والساذج الذي يخدّر جوعه بالكلام المنفوخ عن الصاروخ والكرامة. فلا كرامة، في آخر المطاف، للذين يُحرمون من الحرّيّة ومن الخبز في وقت واحد. ولا يعقل، بعد كلّ حساب، أن تكون كوريا الجنوبيّة التي أنقذت كوريا الشماليّة من المجاعة، عديمةَ الكرامة، فيما الأخيرة تنضح كرامةً وتفيض.
إنّ الكرامة هنا هي الاسم المستعار لحكم طغمة مستبدّة تدوس السكّان وتُفقرهم باسم عدوّ خارجيّ غالباً ما يُراد لعداوته أن تكون أبديّة لا علاج لها. حتّى تذرّعُ الطُغَم الحاكمة بالدفاع عن أفكار أو قيم يتبدّى تذرّعاً مزغولاً: فلا إيران تقاتل في سبيل الله، ولا سوريّا تقاتل في سبيل مبادئ حزب البعث. أمّا كوريا الشماليّة نفسها فأزالت، منذ 2009، في أواخر أيّام الأب كيم جونغ إيل، كلّ إشارة إلى الماركسيّة - اللينينيّة والشيوعيّة من دستورها.
طبعاً هناك من رأى أنّ الصاروخ هو الطريق إلى رغيف الخبز، إذ إنّ مكافحة المستعمر وإجلاءه شرط شارط للتنمية والمستقبل الأفضل. وطبعاً، وكما يقول الشعر، فإنّ «اليد المضرّجة» هي ما يفتح باب الحرّيّة. لكنْ إذا صحّ هذا التقدير في عهد مكافحة الاستعمار فما الذي يسوّغه اليوم بعد عشرات السنوات على الاستقلالات؟
تجربة فيتنام تجيب ببلاغة عن هذا السؤال: حين كان القتال دائراً مع الأميركيّين وأهل الجنوب وُصفت فيتنام بأنّها ملحمة العصر. لكنْ فجأة، وبعدما وضعت الصاروخ جانباً واهتمّت بالرغيف، لم يعد أحد من أولئك المدّاحين القدامى يأتي على ذكرها. إنّ تجربتها في النموّ الاقتصاديّ جيّدة، وعلاقاتها جيّدة مع الأميركيّين والأوروبيّين. إذاً يُستحسن نسيان فيتنام كما لو أنّها لم توجد. الصين كانت لتلاقي التجاهل نفسه لو لم تكن ماضية في مناطحة الأميركيّين.
لهذا يجوز الظنّ أنّ المطلوب، بعيداً من كلّ البهرجات الآيديولوجيّة، إدامة الحالة الحربيّة: «خلّ السلاح صاحي» بحسب ما تقول الأغنية. وفي ظلّ عجز الوعي المتمحور حول الصاروخ عن إحداث أيّ إنجاز في أيّ حقل ما عدا القتال يزداد هذا التمحور ويتعاظم، كذلك يزداد الرفض لكلّ التفاف على الحالة الحربيّة، أكان ذلك بالاقتصاد والمشاريع أو بالثقافة والفنون. هذا كلّه تطبيع يهدّد بتغليب الرغيف على الصاروخ وبإحلال السلم حيث تحلّ الحروب والمنازعات.
لكنْ لنلاحظ اليوم، رغم كلّ الشقاء الذي يقيم في عالمنا المعاصر، أنّ الوعي المتمحور حول الصاروخ صار عتيقاً جدّاً، وهو يزداد عتقاً يوماً بيوم. صحيح أنّه قد يشعل حروباً، وهو قادر على ذلك، إلاّ أنّ موهبته الوحيدة هذه لا تستطيع أن تمنع نخرَه البطيء عبر تعرّضه لأفكار جديدة حول الاستبداد والأبويّة والعنصريّة وأوضاع النساء، وطبعاً كراهية الحروب، وحول التلازم بين هذه القيم والازدهار والبحبوحة. هذه الأفكار «تتسلّل» من خلال التلفزيون والسينما ووسائل التواصل والإعلام البديل وما يتيسّر من سفر أو سياحة أو معرفة بأحوال العالم...، وقبل كلّ شيء من خلال واقع البلدان المعنيّة ذاتها. إنّها لا تكتفي بعزل أصحاب الوعي المتمحور حول الصاروخ، بل تسرق منهم، وبإيقاع يوميّ، أبناءهم الذين بدأوا يمجّون ترّهات أولئك الآباء.
هكذا يغدو الرهان ممكناً على تصدّع القلعة المغلقة في كوريا الشماليّة، وما يقلّدها ويشبهها من قلاع، إن لم يكن في الغد ففي ما بعد الغد، والصاروخ لا يستطيع، إلى ما لا نهاية، أن ينتصر على الرغيف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصاروخ ضدّ الرغيف الصاروخ ضدّ الرغيف



GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt