توقيت القاهرة المحلي 01:42:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الحروب والديون والعملة «الصعبة»

  مصر اليوم -

الحروب والديون والعملة «الصعبة»

بقلم د. محمود محيي الدين

يشهد العالم حروبا وصراعات مسلحة لم يشهدها منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. ومن أشد الحروب بشاعة وإيلاما ما يتعرض فيها المدنيون والأبرياء المسالمون من فقدان للأرواح، وإصابات جسيمة، وإهلاك للممتلكات، وفقدان لأسباب الحياة والمعيشة على مشهد ومسمع من العالم أجمع؛ كالمأساة التى تعيشها غزة على مدى الساعة رغم ما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمناشدات الملحة بإيقاف القصف المروع وآلة الحرب ولو لهدنة إنسانية. ومن ناحية أخرى، فإن الحروب والصراعات وإن جاءت فى دائرة جغرافية محددة كما يحدث فى أوكرانيا وفى الأراضى الفلسطينية المحتلة لكن تداعياتها الاقتصادية والسياسية الإقليمية والعالمية ظاهرة للعيان مع مخاطر متنامية لتوسع دائرة الحرب؛ ومع توالى الصراعات الجيوسياسية وتدهور الثقة بالنظام الدولى هناك نذر بصراعات مسلحة أكثر انتشارا وحروب أكثر دمارا مع زيادة حدة الاستقطاب الدولى.
وفى إشارة للاستقرار النسبى على الصعيد العالمى فى أثناء الحرب الباردة بين المعسكر الشرقى بزعامة الاتحاد السوفييتى والمعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة، يرى المؤرخ هارولد جيمس الأستاذ بجامعة برينستون الأمريكية أن وراء ذلك عاملين، الأول التوازن النووى ضمن الردع المتبادل بين القوتين العظميين فى وقتها ببديل وحيد هو الدمار الشامل للطرفين فى حالة الحرب؛ والثانى هو هيمنة الدولار بوصفه عملة صعبة والذى عد سلاحا نوويا ماليا تجرى عليه ذات القاعدة بألا يجرى تسليحه وألا يستخدم إلا دعامة للاستقرار النقدى والمالى، بما عد وقتئذ أن تسليح الدولار إيذان بدمار نظامه شأنه فى هذا شأن الأسلحة النووية التى روج لها أن كل قوتها فى قدرتها فقط على الردع؛ وأن نهايتها، بل نهاية ممتلكيها، فى حال استخدامها.
هذا مما كان من مسلمات عهد الحرب الباردة البائد، أما العهد العالمى الحالى، الذى شهد انفرادا لفترة لقطب واحد، بعد سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفييتى بلا حرب إلا ما كان من حرب باردة، ثم تعددا للأقطاب بعد تصاعد لقوى جديدة مدفوعة بأوزانها الاقتصادية. ولا يبدو أن للعهد الحالى مسلمات تذكر، فظروف اللايقين وغياب القيادة وعجز الثقة وفائض الأزمات تطغى عليه. فها هى الأسلحة النووية يلوح باستخدامها مرارا بعد بداية الحرب الأوكرانية؛ أما الدولار فقد جرى تسليحه بمنع روسيا من استخدامه فى المعاملات الدولية بعد هذه الحرب، وكانت قد منعت من استخدام نظام «السويفت» للتحويلات البنكية من قبل، بعد إلحاقها لجزر القرم فى عام 2014.
ولكى تكتسب العملة صفتها بوصفها عملة صعبة أو عملة احتياطية فى النظام النقدى الدولى، فعليها أولا ألا تكون عملة سهلة محليا، بمعنى أن يرضى بها عموم الناس فى القيام بوظائفها الثلاث المتعارف عليها بوصفها وحدة للحساب فى المعاملات؛ ووسيلة مقبولة لدفع المستحقات ومخزنا للقيمة؛ أما إذا صارت العملة المصدرة سهلة بانهيار مستمر لقيمتها بسبب التضخم والتوسع فى المعروض منها لسداد الديون، فسينصرف الناس عنها بإحلالهم نقودا أخرى محلها، أو باللجوء لوسائل التوقى من التضخم كالذهب. وإذا ما استقرت العملة محليا وتوسع اقتصادها إنتاجا واستثمارا وتصديرا للخارج فسيقبل الناس عليها من خارج حدود الدولة لتقوم بذات الوظائف الثلاث عبر الحدود لتصبح بذلك عملة دولية فى تسوية المعاملات. وإذا ما تطور شأن العملة الدولية فتمتعت باستقرار اقتصادى وسياسى وقوة للقانون تساندها فى بلادها المصدرة صارت عملة احتياطية، فتستثمر البنوك المركزية والمؤسسات فى الأدوات المالية المقومة بها كأذون وسندات الخزانة استفادة من سيولتها العالية، وحماية حقوق حامليها عبر الوقت.
وللدول المصدرة للعملة الصعبة امتيازات كبرى منها ما يبلغ حد الامتياز السخى الفياض على اقتصادها: بأن تقترض دوليا بعملتها المحلية ثم تكلف عمليا كل حامل للدولار حول العالم بالمساهمة فى تكاليف سداد ديونها برفعها معدل التضخم الذى ينتقص من قيمة العملة. تماما كحال الدولار الأمريكى الذى ورث عرش الجنيه الإسترلينى رسميا فى عام 1956 بعد حرب السويس، المشهورة بالعدوان الثلاثى على مصر؛ إذ ظهر جليا بعد هذه الحرب أن الغلبة فى المعسكر الغربى للولايات المتحدة التى أملت شروط وقف القتال تاركة بريطانيا تدرس تداعيات ما بات يعرف بعدها «بلحظة السويس»، وهى اللحظة التى يدرك فيها الطرف الأضعف حقيقة ما صار إليه من ضعف شهد به القاصى والدانى، إلا أنه استمر فى إنكاره لما كان عليه فى عهد سابق من مجد، وظن أن ما يعتريه من ضعف مؤقت وأنه سيستعيد المجد التليد ولكن هيهات.
فقد كان الإسترلينى عملة صعبة مسيطرة بارتياح على الاقتصاد العالمى حتى الحرب العالمية الأولى التى كبدت بريطانيا خسائر اقتصادية ومالية رغم انتصارها السياسى والعسكرى؛ فباعت أصولا واستدانت بما يتجاوز 130 فى المائة من ناتجها المحلى لتمويل المجهود الحربى بما يقدره الاقتصادى الأمريكى بارى أيكنجرين بستة أمثال مستوى ديونها قبل الحرب. ورغم ظهور الدولار منافسا محتملا للإسترلينى فى العشرينيات فإن الحكومة البريطانية اتخذت إجراءات للسيطرة على التضخم وضغط الإنفاق بما جعل الإسترلينى يصمد فى المنافسة الدولية؛ وهو ما كان هدفا جيوسياسيا من مكونات الاحتفاظ بالقوة الشاملة لمركز الإمبراطورية التى شرعت الشمس فى الأفول عنها بعدما كانت لا تغرب عنها أبدا.
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فخرجت بريطانيا منها منتصرة عسكريا وسياسيا مرة أخرى، ولكن بديون خارجية أكبر ومع ازدياد التزاماتها محليا اضطرت لتخفيض قيمة عملتها بعد الحرب. وشهد الإسترلينى تراجعا عن الاحتفاظ به من قبل البنوك المركزية، وانخفض الطلب عليه، ثم جاءت لحظة السويس الحاسمة التى امتنع فيها الرئيس الأمريكى أيزنهاور عن مساندة بريطانيا وعملتها التى انخفضت بحدة إلا بعد انسحاب قواتها ووقف حرب السويس.
والسؤال الملح: هل سيستمر الدولار فى هيمنته فى هذا العالم المضطرب الشديد التغير؟ وهذا ما سنتناول إجابته فى مقال مقبل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحروب والديون والعملة «الصعبة» الحروب والديون والعملة «الصعبة»



GMT 01:42 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

التوريق بمعنى التحبير

GMT 01:38 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

مَن يحاسبُ مَن عن حرب معروفة نتائجها سلفاً؟

GMT 01:34 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

كيسنجر يطارد بلينكن

GMT 01:32 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

غزة وانتشار المظاهرات الطلابية في أميركا

GMT 01:29 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

من محمد الضيف لخليل الحيّة
  مصر اليوم - أحمد حلمي يكشف أسباب استمرار نجوميته عبر السنوات

GMT 10:05 2017 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

الثروة الحقيقية تكمن في العقول

GMT 13:33 2019 الثلاثاء ,12 آذار/ مارس

أفكار بسيطة لتصميمات تراس تزيد مساحة منزلك

GMT 00:00 2019 الأحد ,17 شباط / فبراير

مدرب الوليد يُحذِّر من التركيز على ميسي فقط

GMT 12:26 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

تدريبات بسيطة تساعدك على تنشيط ذاكرتك وحمايتها

GMT 20:58 2019 الإثنين ,07 كانون الثاني / يناير

مؤشر بورصة تونس يغلق التعاملات على تراجع

GMT 16:54 2018 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

"اتحاد الكرة" يعتمد لائحة شئون اللاعبين الجديدة الثلاثاء

GMT 15:16 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

وزارة "الكهرباء" تستعرض خطط التطوير في صعيد مصر

GMT 19:26 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

أمن الجيزة يكشف عن تفاصيل ذبح شاب داخل شقته في منطقة إمبابة

GMT 22:47 2018 الجمعة ,31 آب / أغسطس

أمير شاهين يكشف عن الحب الوحيد في حياته

GMT 00:49 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

أيتن عامر تنشر مجموعة صور من كواليس " بيكيا"

GMT 04:18 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

اندلاع حريق هائل في نادي "كهرباء طلخا"

GMT 22:56 2018 السبت ,02 حزيران / يونيو

فريق المقاصة يعلن التعاقد مع هداف الأسيوطي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon