توقيت القاهرة المحلي 23:24:30 آخر تحديث
  مصر اليوم -

داريوش شايغان... معضلة الصراع الحضاري

  مصر اليوم -

داريوش شايغان معضلة الصراع الحضاري

بقلم : فهد سليمان الشقيران

مع كل احتدامٍ بين الشرق والغرب، بين المسيحية أو اليهودية والإسلام، بين التقاليد الشرقية والأخرى الغربية، يبدو ماثلاً أمام المتابع أن صراع القيم هذا لن يوصل إلا إلى المزيد من الكراهية، ولن ينتج سوى كثير من الحروب. مع أن أسس التسامح وأفكار الاعتدال مطروحة ومدعومة من قبل الحكومات المعتدلة بالعالم، ولكن لا تستطيع المؤسسات السيطرة على مكنونات الشعوب. وآية ذلك أن الحدث المدوّي يعيد المجتمعات إلى المربع الأول، وكأن تلك الجهود ذهبت سدى. والعبء على الحكومات كبير، وهي معذورة في هذا المجال، لأن إصلاح إرثٍ طويل من السجال والتناحر والتنافر بين البشر بشتى انتماءاتهم يحتاج إلى أجيالٍ متعاقبة. الفيديوهات المتداولة اليوم بين اليهود والمسلمين تبيّن مستوى التناحر، كما حدث من قبل بين المسلمين والمسيحيين مع أحداث الإرهاب من جهة، أو حماقات إحراق المصاحف من قبل بعض المعاتيه من جهة أخرى. إنها هيمنة العوام على السجال الحضاري، ونفوذ الشعبوية على الإشكالات القيمية الكبرى.

وسؤال القيم والهوية والالتقاء الثقافي والحضاري أرَّق كثيراً من الفلاسفة الكبار، ومن بينهم داريوش شايغان الذي عكف على مثل هذه الأسئلة لسنواتٍ طوال. قد عدتُ إلى كتاباته بعد الأزمات المستجدة الحالية، ولفتني في كتابه المهم: «الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني» أحد الفصول بعنوان: «القيم الكونية في عالم النسبية الثقافية»، لكن ما مقاربته لهذه الإشكالات شبه المستعصية؟!

يرى شايغان أننا حيث نعيش؛ فلكل ثقافة مطالبها الخاصة: طريقتها في رؤية العالم، وطريقتها في تقويم حقوق الإنسان، وطريقتها في تعريف استقلالية الشعوب وحقوق المواطنين. فالبعض يطالب بقيمٍ آسيوية، وآخرون بانكفاءٍ إلى الذات في رؤية منغلقة للعلاقات الإنسانية، والبعض الآخر يرى أن أي سلطة سياسية إنما تنبع من مصدرٍ إلهي. تنضوي هذه الخطابات جميعاً على تحدٍّ للغرب وللحداثة التي تكمن خلفه، ولسان حالها يقول: لستم وحدكم مَن يبتّ في الأمر، ولم يخولكم أحد فرض قيمكم علينا من جانبٍ واحد. وفوق كل هذا وذاك، يأتي ناشطو التعددية الثقافية ليضموا أصواتهم إلى هذه الاحتجاجات، فيتحدثون عن «الإرهاب الأبيض»، وعن الأضرار الجسيمة التي تتسبب فيها النزعة المركزية الأوروبية التي تعمل، في رأيهم، وفق تعارضات ثنائية. في سياق هذا التعارض يُعطى الامتياز للمصطلح الأول الوارد في هذه الثنائيات. هكذا تميل التعددية الثقافية إلى أن تصبح نوعاً من السياسة الهوياتية حيث يختلط مفهوم الثقافة، ولا بد، بالهوية العرقية، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب في إضفاء صبغة ماهوية على الثقافة؛ بالإفراط في تحديد تمايزاتها.

ويخبرنا جورج شتاينر George Steiner كيف أن اللغويات الجديدة تُثبِت أهميتها الكبيرة في ملتقى الفلسفة وعلم النفس. توجد في الواقع علاقات متعددة بين الفكر، واللغة، والواقع.

ثمة مكتسبات بشرية (يشير شايغان) غير أن بعض الثقافات ترفض هذه المكتسبات جملة وتفصيلاً باسم القيم العرقية والدينية، وتبحث عن طرق وبدائل التفافية، لكنها لن تعثر على قيم بديلة لتغير نوعي يخصها أيضاً مثلما يخص غيرها، لأن ذلك يعني التشكيك فيما أصبح جزءاً لا يتجزأ منها. علينا دائماً أن نقيم مواقفنا الخاصة، وفق هذا المقياس؛ ذلك أن هذا الحضور، وهذه الضرورة الملحَّة للحالة الجديدة، هو الذي يدفع طغاة العالم الثالث إلى تقليد صوري هزيل لحقوق الإنسان. إن هذه القيم الكونية والمحايدة آيديولوجياً الخالية من أي انتماء طائفي، تُشكل في ذاتها هوية جديدة؛ لا هي عرقية ولا دينية، كما أنها ليست وطنية تماماً، لكنها تنتمي إلى ذلك العقل الذي من المفترض أن يسهم فيه، بلا تحفظ، وبمعزل عن انتماءاتهم الثقافية، جميعُ البشر ممن يدركون أنهم يعيشون في بداية القرن الحادي والعشرين. وإن كنا نعني بـ«كوني» قيماً تتخطى الحدود والانقسامات العرقية والارتدادات الوطنية والقطيعات التاريخية، فإن هذه القيم كونية بالفعل. يمكننا أن نرفضها وأن نختبئ داخل هوامات هوياتية، ويمكننا أن نسعى بالطرق شتى إلى إيجاد بديلٍ يُريحنا ووهم جميل، لكننا لن نستطيع أن نضعها جانباً ونواصل دربنا الصغير في العيش كأن شيئاً لم يحدث، لأن ذلك سيقودنا ببساطة تامة إلى الانغلاق، بل إلى ما هو أسوأ من ذلك؛ إلى يباس هوياتي.

لذلك، بحسب شايغان، لا مناص من الالتقاء الثقافي والحضاري، ومن دون ذلك لا يمكن الحفاظ على قيم الأنوار، بل رأى أن جميع الدول التي توهمت العثور على طريق ثالثة مخالفة لوجهة مكتسبات الإنسان الحديث حصدت إخفاقات مدوية. والقول إن مكتسبات عصر الأنوار تعمل على تجميل إمبريالية الغرب وهيمنته الشاذة لا يُغير شيئاً من المشكلة. على ثقافات الكوكب كافة أن تكون طوع بنان هذه المكتسبات، وأن تمتثل لها، لئلا تنعزل في عالم متمركز حول ذاتها؛ فتبقى وحيدة على قارعة الطريق، فضلاً عن أنه لا وجود لقيم بديلة. نستطيع دائماً أن نُلوح بالحقوق الدينية - المسيحية والهندوسية والإسلامية ونحوها - لكننا بذلك سنبقى عالقين بلا أمل في مجالٍ وهمي للأماني غير القابلة للتحقق. أضف إلى ذلك أنه إذا ما أمكن للأديان أن تتقلد زمام السلطة، فإنها ستغير طبيعتها وتخضع لسيرورة أدلجة لا محالة. فالتنوع الثقافي، رغم كل الزركشة والجاذبية اللتين تسِمانه، لا يمكن إلا لوعي تفكري ومزدوج وموسوط أن يعترف به. داخل هذا السياق تكتسي هويتنا الحداثية أهميتها، لأنها وحدها من دون غيرها تتمتع بملكية نقدية قادرة بفضل ذاكرتها الإجمالية أن تُبرز للمفارقة المستويات القديمة والمتأخرة تاريخياً عن الثقافات الأخرى، وتمنحها مساحة للوجود، وتعزز تمفصلاتها المتعددة، أي بعبارة أخرى: تستطيع أن تربط بين عوالم تعيش في عصور مختلفة، من دون إسهام الوعي التفكري والنقدي لهويتنا الحديثة.

من الواضح أن تصاعد التنافر بين أتباع الأديان وسكان تاريخ الحضارات سيزيد من احتمالات العنف، وسيفضي إلى مزيدٍ من الحروب. من الصعب وضع صفة سحرية للنجاة من هذا التلاعن الحضاري والديني، لكن يمكن للعقلاء وضع اقتراحاتٍ فلسفية وعلمية حيوية متجددة تستطيع أن تقبض على الشيطان الكامن المحرض على العداوة بين بني البشر، رغم إجماع الفلاسفة والمفكرين على أن ما يجمع بين البشر أكثر مما يفرقهم، ولكن الخطر كل الخطر في المخزون الثقافي الموروث الذي يجعل الشر المحض جزءاً أصيلاً من تكوين الآخر الديني والثقافي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

داريوش شايغان معضلة الصراع الحضاري داريوش شايغان معضلة الصراع الحضاري



GMT 05:34 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

اتفاق غزة... الأسئلة أكثر من الإجابات!

GMT 00:17 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

في معنى «التنوير»

GMT 19:46 2024 الأربعاء ,08 أيار / مايو

قراءة في مذكّرات يوسف حمد الإبراهيم

GMT 19:45 2024 الأربعاء ,08 أيار / مايو

محاولة بعث الصدام الحضاري

GMT 01:01 2024 الجمعة ,10 أيار / مايو

‎ لماذا دخل نتنياهو رفح؟

النجمة درة بإطلالة جذّابة وأنيقة تبهر جمهورها في مدينة العلا السعودية

الرياض ـ مصر اليوم

GMT 23:32 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

الفرنسي عثمان ديمبلي يعود إلى تدريبات برشلونة الإسباني

GMT 04:11 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

طريقة عمل تشيز كيك بخطوات سهلة

GMT 00:53 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تثير غضب الجماهير المصرية في القاهرة السينمائي

GMT 23:45 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

اتحاد الكرة يؤكد يحق لكل نادٍ ضم 25 لاعباً جديداً

GMT 17:03 2018 الثلاثاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مرسيدس تكشف عن سيارة كهربائية في تحدٍ ألماني مباشر لتسلا

GMT 03:28 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

تراجع أسعار الذهب في الأسواق المصرية الأحد

GMT 02:49 2018 الخميس ,28 حزيران / يونيو

وائل كفوري يرفض التعليق على هجوم بعض الأشخاص
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon