توقيت القاهرة المحلي 00:31:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

سياسات الحروب ودعوات العقلنة

  مصر اليوم -

سياسات الحروب ودعوات العقلنة

بقلم : فهد سليمان الشقيران

مستوى الارتباك الأممي جراء الحدث الدامي، أياً كان مستواه وأثره، يعبّر عن فجيعة مصحوبة بالاستغراب من مستوى تضعضع النقاش الأخلاقي، فضلاً عن عدم قدرة المؤسسات الأممية والمواثيق الدولية على وضع حد للصراع بين البشر والأمم.

إنه نقاش مفهوم جزئياً بوصفه خارج أروقة الأكاديميات، وإنما موقعه المجال العام، لكن ما يصعّب فهم الجزء الآخر منه مستوى الخيرية المفترضة لدى العموم بوصفها أصيلة وليست مكتسَبة.

إدغار موران فيلسوف معاصر مرموق ناقش موضوع «العقل المحطّم» والعقل المحطِم في بحث كبير من الجيد الاستئناس بخلاصته مع تطور الأحداث وهشاشة الإنسان أمام نزواته وصراعاته، هدف موران من البحث كله تأسيس عقل منفتح.

يعدّ العقلنة (La rationalisation) مستوى من إنشاء رؤية منسجمة كلية عن الكون انطلاقاً من معطيات جزئية؛ من نظرة جزئية، أو من مبدأ وحيد. وهكذا فإن رؤية من وجه واحد من الأشياء (مثلاً المردودية والفعالية)، والتفسير من خلال عامل وحيد (العامل الاقتصادي أو السياسي)، أو الاعتقاد بأن الشرور التي تعاني منها الإنسانية راجعة إلى علة وحيدة وإلى نوع واحد من العوامل، كلها مظهر من مظاهر العقلنة؛ إذ يمكن للعقلنة أن تقيم، انطلاقاً من قضية أولية عبثية تماماً أو استيهامية، بناء منطقياً تستنتج منه كل النتائج العلمية.

لذلك أنتجت مغامرة العقل الغربي، منذ القرن السابع عشر، أشكالاً من العقلنة (Rationalite) والعقلانية والتبرير العقلاني، في آن واحد، وبصورة غير متمايزة. العقلانية الكلاسيكية ونفيها يشكلان مع تطور العلم في الغرب في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر نوعاً من البحث عن العقلنة (بموازاة أشكال التفسير الأخرى). لكن هذا التطور يبدو أيضاً كأنه قطيعة مع التبرير العقلاني الأرسطي - المدرسي بواسطة التأكيد على أولية التجربة على التناسق المنطقي. كانت الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى تبريراً عقلانياً يحول دون اللجوء إلى التجربة؛ فإما أن التجربة تؤكد الفكرة، وبالتالي فهي غير مجدية، أو أنها تناقضها، وبالتالي فهي ضالة. إن الاكتساح الذي مارسه العلم كان نتيجة مجهود مفكرين تجريبيين وصوفيين في الوقت نفسه، مثل كبلر. والنتيجة الأولى للعلم هي نزع الصبغة التبريرية عن المعرفة بشكل واسع، هذه المعرفة التي كانت تعتمد إلى غاية ذلك الوقت على الأورغانون الأرسطي. يقول نيدهام: «لا يمكن أن نؤكد أن العقلانية كانت، على مدى التاريخ، القوة التقدمية الأساسية في المجتمع. من الأكيد أنها كانت كذلك في بعض الظروف، لكنها في ظروف أخرى لم تكن كذلك، كما هو الأمر في القرن السابع عشر في أوروبا مثلاً، حيث كان اللاهوتيون المتصوفون هم الذين يساعدون رجال العلم».

القوة التقدمية (يكتب موران) الأساسية في المجتمع، من الأكيد أنها كانت كذلك في بعض الظروف. «لكنها في ظروف أخرى لم تكن كذلك، كما هو الأمر في القرن السابع عشر في أوروبا مثلاً، حيث كان اللاهوتيون المتصوفون هم الذين يساعدون رجال العلم». وفعلاً فإن العلم قد تقدم في توتر مزدوج بين التجريبية والعقلانية، حيث كانت الأولوية المعطاة للتجربة تكسر نظريات العقلنة، لكن حيث تلا كل نزع للتبرير العقلاني مجهود جديد للفهم؛ مجهود يؤدي إلى محاولة جديدة لعقلنة الوقائع. لقد مكَّنت مظاهر التقدم التي أحرزتها الفيزياء في نهاية القرن الثامن عشر من تصور كون حتمي قابل كلياً للمعالجة الحسابية حيث يمكن لمارد نموذجي، كما تصوره لابلاس، أن يستنتج كل الحالات الحاضرة أو المقبلة للكون. ومنذ ذلك الوقت أخذت العقلانية تتوفر على رؤية للعالم تتضمن تطابقاً بين ما هو واقعي وما هو عقلي، وما هو قابل للإحصاء الحسابي، وهي عناصر أُقصي منها كل ما هو غير منتظم، وكل ذاتية. لقد أصبح العقل هو الأسطورة الكبرى الموحدة للمعرفة، وللأخلاق وللسياسة. ويجب على المرء من منطلق هذا المنظور أن يحيا تبعاً للعقل، أي أن يبعد نداءات الوجدان والاعتقاد. ومن حيث إن مفهوم العقل يتضمن مبدأ الاقتصاد، فإن الحياة، وفقاً للعقل، ستكون موافقة للمبادئ النفعية للاقتصاد البورجوازي. لكن المجتمع أيضاً يطالب بأن يكون منظماً، حسب ما يمليه العقل، أي حسب النظام والانسجام. إن مثل هذا العقل ليبرالي في أعماقه؛ فمن حيث إنه يفترض أن الإنسان عاقل بطبيعته، فإنه يمكننا إذن أن نختار لا فقط المستبد العادل، بل يمكننا أيضاً أن نختار الديمقراطية والحرية التي ستمكّن العقل الجماعي من أن يعبر عن ذاته، وستمكّن العقل الفردي من أن يزدهر. لكن سيتم بالتدريج تحلل التناسق الإنساني العقلاني والليبرالي الأكبر. إن عبادة العقل سترتبط بالأرض، وستصبح مصائر العقل والحرية قابلة للتفكك، وسيحدث على وجه الخصوص رد فعل الرومانسية تجاه العقلانية. لم تكن هناك فقط المقاومة التي يبديها الدين والوحي، بل ظهر أيضاً رفض للطابع المجرد وغير الشخصي للعقلانية. لقد قدم الكائن الإنساني ككائن وجداني وعاطفي (روسو) وكذات لا يمكن إرجاعها إلى أي شكل من أشكال العقلنة (كيركيغارد).

لما مضى؛ فالحياة لست «عاقلة» أو عقلية (شوبنهور ثم نيتشه). إن الرومانسية بحث فيما قبل العقل، وفيما بعد العقل. إن هذه الانتقادات الموجهة إلى العقلانية لا تزال قائمة. لكن نقداً جديداً، داخلياً، ينبثق من قلب العقلنة ذاتها. حسب هذا النقد المعاصر، يُدان العقل، لا فقط من حيث كونه مفرطاً في العقلانية، بل يُدان كذلك على أنه غير معقول. إن الأزمة الحديثة للعقلنة هي الكشف عن اللاعقل ضمن العقل.

الخلاصة أن البحث عن عقلنة شاملة لوجود الإنسان أو لمعارفه أمر مستحيل التحقُّق، والخطاب العمومي السائد اليوم مع الأحداث وشدّتها يعبر عن رغبة محمومة بالإبقاء على العيش المشترك بين بني الإنسان من دون أي حروب. إنها فكرة عقلنة تصرف الإنسان، ومنها محاولات كانط وراسل، ولكن ضغط الحدث وفوضوية النزعات وتشظّي الصراعات تثبت لنا أن الضبط المنشود لدوافع الحرب لن يحدث. الإمكان الوحيد أن تسعى المؤسسات الأممية لتخفيف احتمالات الحروب، ولتكثيف الحوار والنقاش والتفاوض بدلاً من استخدام آخر الأدوية، وهو «الحرب».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سياسات الحروب ودعوات العقلنة سياسات الحروب ودعوات العقلنة



GMT 05:34 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

اتفاق غزة... الأسئلة أكثر من الإجابات!

GMT 00:17 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

في معنى «التنوير»

GMT 19:46 2024 الأربعاء ,08 أيار / مايو

قراءة في مذكّرات يوسف حمد الإبراهيم

GMT 19:45 2024 الأربعاء ,08 أيار / مايو

محاولة بعث الصدام الحضاري

GMT 01:01 2024 الجمعة ,10 أيار / مايو

‎ لماذا دخل نتنياهو رفح؟

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:44 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في "كان"
  مصر اليوم - نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في كان

GMT 00:00 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

إسرائيل تتوغل في رفح ومعارك تحتدم في شمال غزة
  مصر اليوم - إسرائيل تتوغل في رفح ومعارك تحتدم في شمال غزة

GMT 00:31 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

أحمد حاتم يكشف كواليس انفصاله لأول مرة
  مصر اليوم - أحمد حاتم يكشف كواليس انفصاله لأول مرة

GMT 14:26 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تتركز الاضواء على إنجازاتك ونوعية عطائك

GMT 00:03 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الكويت يتأهل إلى نهائي كأس ولي العهد بهدف قاتل على النصر

GMT 21:03 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

أياكس أمستردام يضم مدافع منتخب الأرجنتين

GMT 12:23 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

"جبل الصايرة البيضاء" موقع سياحي مهجور رغم إمكاناته الكبيرة

GMT 11:51 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

طوارئ في مطار القاهرة استعدادًا للتفتيش الأمنى الأميركي

GMT 19:40 2015 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ثلث أشجار الأمازون ونصف أنواعها مهددة بالإندثار

GMT 19:50 2015 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

يرقة الفراشة اليابانية تتحول إلى براز لتحمي نفسها من الطيور

GMT 04:24 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

دعاء اليوم الرابع عشر من رمضان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon