بقلم:مصطفى الفقي
مازلت أعتقد أن شريحة كبيرة من أبناء أعيان الريف كانوا هم وقود الحركة الوطنية لقرون مضت وأزمنة تراجعت، فقد كان وجودهم شهادة على قدرة التعليم فى إحداث الصعود الطبقى فالتعليم والجندية أى المرور بمراحل الدراسة المختلفة وبلوغ درجات عليا فيها، كذلك فإن الانتظام بالسلك العسكرى والالتحاق بالجيش المصرى كان كلاهما مبررًا للارتقاء الطبقى والارتفاع فى سلم الوظائف بما يؤدى إلى نقلة نوعية تجعل صاحبها يلحق بركاب الطبقة المتوسطة، وما أكثر النماذج التى رأيناها لذلك بدءًا من على مبارك مرورا بالرعيل الأول من مفكرى القرن العشرين وأعنى بهم أسماء مثل أحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل والدكتور على إبراهيم فضلا عن دور الأزهر الشريف فى الدفع بقيادات من نوع آخر جمع بعضها بين علوم الدنيا والدين وحملوا لواء الاستنارة وحاربوا التخلف ويتجسد هذا النموذج فى رائد التنوير د. طه حسين، خلاصة ما أود أن أقوله من هذه المقدمة هو أن القدرة على الصعود الطبقى لا تحتاج إلى المال ولكنها تعتمد بشكل أساسى على العلم وتدور حول ما يمكن أن يقدمه من دفعة إلى الأمام وتصور حيوى رشيد، ولقد عرفت مصر مظاهر الصعود الطبقى فى مراحله المختلفة وتمكنت دائمًا من أن تقدم نماذج لا لمصر وحدها ولكن للعالمين العربى والإسلامى، فالفلاح المصرى بحق هو ديدبان العصر وحارس النيل الذى ارتبط دائمًا بالجغرافيا والتاريخ أى بالمكان والزمان فهو صانع القيم الذى تشكلت به شخصية الأمة وتبلورت معه خصائص الوطن، إنه نموذج رفيع للذكاء الفطرى والعمق الفكرى والذى لا تخلو شخصيته من دهاء حميد وحرصٍ واضح، فلقد عايش كل النظم وعرف استبداد السلطة والإقطاع معًا فى مراحل مختلفة من تاريخه وكان له أعظم الأثر على حياة المصريين فى السنوات الأخيرة، فهو أسطورة باقية ولحن مميز لشخصية الوطن، وقد مر التاسع من سبتمبر هذا العام وهو عيد الفلاح المصرى لكى نتذكر جميعًا أصولنا البعيدة وجذورنا العميقة وندرك أن الفلاح كان
ولايزال وسوف يظل عماد الثروة الوطنية، وأنا أتذكر مثل هذه الأيام من طفولتى عندما كان ينتهى موسم جنى القطن أو يقترب من ذلك فإذا الفلاح يتمكن من تأهيل ابنته للزواج وإعداد ابنه للاستقلال، فالقطن هو الذهب الأبيض فى عصره يفتح باب الأعراس والمناسبات المبهجة ويجعل الجميع سعداء على قلب رجل واحد، ولذلك فما من مناسبة التقيت فيها بخبير القطن المصرى أمين أباظة وزير الزراعة الأسبق إلا واستمعت منه إلى آرائه الصائبة فى محنة القطن حاليًا وتراجعه فى الأسواق العالمية ومازلت أتذكر موقف اليسار المصرى من فلاح الأرض كما طرحه الكاتب إبراهيم عامر فى كتابه الشهير «الأرض والفلاح» أو كما قام بتحليله على بركات فى كتابه الموسوعى عن تاريخ الملكية الزراعية فى مصر. كما أتذكر يوم أن جاء عبد الرزاق صدقى وزير الزراعة وأحمد حسن الباقورى وزير الأوقاف لتوزيع أرض تفتيش المغازى باشا بمحافظة البحيرة وما قاله يومها الباقورى نصًا (لم يكن المغازى إقطاعيًا بمعنى كلمة إقطاع ولكنه عصامى كون نفسه بنفسه، إلا أن القانون ينطبق على الجميع) وكان الكل يعلم أن ذلك الإقطاعى العادل قد كون ثروته الحقيقية من تجارة الأقطان الرائجة فى عصره.. رحم الله الجميع.