توقيت القاهرة المحلي 14:16:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«مواويل الليلة الكبيرة».. مرثية الجيل الضائع

  مصر اليوم -

«مواويل الليلة الكبيرة» مرثية الجيل الضائع

بقلم : إيهاب الملاح

لعل المفكر والناقد الراحل غالى شكرى واحد من أغزر وأعمق مفكرينا المعاصرين الذين غطوا بإسهاماتهم النظرية والتحليلية مساحات عريضة وواسعة من الفكر المصرى والعربى، لم يشاركه فيها أحد، ولم يقرب منها أحد حتى وقتنا هذا!
من بين إنتاج المرحوم غالى شكرى الزاخر والقيم روايته اليتيمة «مواويل الليلة الكبيرة» التى صدرت طبعتها الأولى فى بيروت عن دار الطليعة عام 1985، وفى حدود علمى، فإنها منذ هذا التاريخ لم يُعد طبعها إلا منذ أسابيع قليلة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
مثله مثل المفكر والناقد الراحل لويس عوض؛ كان غالى شكرى مشغولا ومهجوسا بقراءة وتحليل الواقع المصرى والعربى طيلة ما يقرب من نصف القرن؛ متخذا من ميادين النقد الأدبى وعلم اجتماع الثقافة وتاريخ الأفكار (أو علم اجتماع المعرفة بصيغة أشمل) إطارا للتأسيس المعرفى والتنظير والتحليل.
ومن ينسى أطروحته التى نال عنها الدكتوراه من السوربون «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث» أو فى استكمالاته المهمة فى «الثورة المضادة» أو «أقواس الهزيمة». عشرات الكتب والمؤلفات التى اتسمت بعمقها وانضباطها ومنهجيتها وقدرتها التحليلية على قراءة الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية التى عاناها المجتمع المصرى منذ بواكير النهضة فى القرن التاسع عشر وحتى رحيله.
ــ 2 ــ
غطت شهرة غالى شكرى ناقدا ومفكرا على إسهامه «روائيا» بروايته «مواويل الليلة الكبيرة»، وهو الذى كان أحد نجوم النقد الروائى المصرى والعربى، وصاحب الإسهامات الأصيلة فى درس ونقد وتحليل النتاج الروائى العربى منذ أربعينيات القرن الماضى، وحتى العقد الأخير منه.

وفى ظنى، فلا يمكن قراءة روايته «مواويل الليلة الكبيرة» بمعزل عن كامل رؤيته الفكرية والاجتماعية والسياسية التى كانت توجه كتابته فى مجملها. فإذا كان غالى شكرى قد واجه سؤال النهضة فى العديد من كتبه التى حاول من خلالها، أن يفكك معرفيا العناصر التى تنطوى عليها صيغة النهضة؛ فإننا يمكن القول إنه واجه ذات السؤال جماليا وإبداعيا فى «مواويل الليلة الكبيرة» محددا نطاقه الزمنى المرجعى بزمن النهضة والسقوط؛ ما بين أربعينيات القرن الماضى وحتى مطالع الثمانينيات من القرن العشرين.
يمكن اعتبار الرواية نموذجا مختلفا وفريدا من نماذج الرواية السياسية التى تقوم على طرحٍ نقدى تحليلى للواقع السياسى والاجتماعى فى مصر والعالم العربى (تحديدا خلال الحقبة الناصرية وما تلاها)، فيما يعد (أو يمكن اعتباره) موازاة جمالية لفكرته الرئيسية عن النهضة والسقوط فى الفكر المصرى والعربى الحديث، والتى تقوم على افتراض أن صيغة النهضة تحمل فى داخلها بذرة للنمو، وفى الوقت نفسه تحمل جرثومة السقوط!
ــ 3 ــ
وإذا كان إشكال المثقف والسلطة أحد انشغالات غالى الأصيلة، فإنه يبرز هنا كأجلى ما يكون فى «مواويل الليلة الكبيرة»؛ باستدعاءٍ لافت وحاشد لعديد من المثقفين (كتابا، وشعراء، وروائيين، ونقادا... إلخ) ليُنطقهم بسرد رواياتهم هم، وحكاياتهم هم، عن هموم الوطن وأحلامه وانهياراته وانكساراته التى اعتصرت بقبضة لا ترحم قلوبهم وأرواحهم.. وتتحرك هذه الروايات المتعددة، داخل النص، مستعيرة خطابات داخلية لهؤلاء جميعا مانحة إياهم مساحات متكافئة تقريبا، يصبحون فيها رواة مستقلين يروون فيها تاريخا آخر التاريخ الرسمى، ويرصدون وقائع مستترة وراء الوقائع المعلنة، ويعبرون فى النهاية عن تلك البوتقة الهائلة التى تفاعلت وانصهرت فيها تيارات وتوجهات شتى، وعوامل بقاء وفناء شتى، فى حقبة حافلة تمتد عقودا طويلة من الأربعينيات وحتى أوائل الثمانينيات من هذا القرن، وقت غزو إسرائيل للبنان.

إن هذه الرواية، وكما يلتقط بحساسية فائقة الناقد د.حسين حمودة، تستنهض تجارب وأصواتا متنوعة، متناغمة ومتعارضة فى آن، لعددٍ كبير من الساسة الأحياء (نُشرت قراءة حمودة فى منتصف تسعينيات القرن الماضى) وأيضا الأموات، ممن صاغوا حركة التاريخ السياسى والثقافى المصرى والعربى، أو كانوا ضحايا لهذا التاريخ.
فمن شهدى عطية إلى غسان كنفانى، ومن جمال عبدالناصر إلى راشد الخاطر، ومن على فودة إلى إسماعيل المهدوى، ومن مصطفى خميس إلى أمل دنقل، تتحرك الروايات المتعددة داخل هذه الرواية، مستعيرة «خطابات» داخلية لهؤلاء جميعا، مانحة إياهم مساحات متكافئة تقريبا.
ــ 4 ــ
ولربما كانت «مواويل الليلة الكبيرة» من الروايات القليلة التى حاولت أن تقرأ وتتأمل مغزى ودلالات حوادث ووقائع معلنة فى التاريخ السياسى والاجتماعى والثقافى لمصر فى الثلث الأوسط من القرن العشرين؛ مثل فصل «الربابة بأبو زعبل» على لسان المناضل الشيوعى الأشهر شهدى عطية الشافعى قبيل موته جراء التعذيب (أو غير معلنة كما فى حال أحداث كمشيش ــ على سبيل المثال ــ التى يعرض لها غالى شكرى على لسان صلاح حسين فى فصل «بكائية على ناى كمشيش»).
وذلك، كما يرصد حمودة، من خلال المراوحة بين خطابات «المونولوج» الذاتى الاعترافى، وخطابات «الديالوج» الحوارى، وهى مراوحة تجعل هذه الخطابات، تبدو فى بعدٍ من أبعادها، مغلقة على ذاتها، مثقلة بنبرة الاعترافات الخاصة، مُسيجة بمنطق كتابة المذكرات الخاصة، أو شبيهة ببوح داخلى فى حجرات مظلمة، كما تبدو فى بعدٍ آخر خطابات معلنة موجهة إلى آخرين، مروى عليهم مفترضين، تتوجه إليهم فى لحظات من تماس عابر، استثنائى، كأن هذه الخطابات بذلك، بمثابة شهادات للتاريخ، عن الذوات وعن الآخرين، عن عوامل داخلية خاصة بهؤلاء جميعا، وعن الفترة التى احتوتهم، وعن العلاقات التى أثرت فيهم، وتأثرت بهم، فى آن.

لقد ظل غالى شكرى، فى كل ما كتب؛ فكرا ونقدا وإبداعا، أحدَ حاملى هموم هذا الوطن الحالمين بمستقبل أفضل، وسعى نحو الحضارة والتقدم لا يكل ولا يمل؛ وهو فى أشد لحظات يأسه وإحباطه كان مقاوما بالإبداع، وساعيا لتجاوز شروط التخلف بالخيال والفكر والإبداع والنقد معا.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«مواويل الليلة الكبيرة» مرثية الجيل الضائع «مواويل الليلة الكبيرة» مرثية الجيل الضائع



GMT 20:35 2025 السبت ,08 شباط / فبراير

48 ساعة كرة قدم فى القاهرة

GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 03:13 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

النوم الهادئ لا يعتمد على الدماغ فقط بل يبدأ من صحة الأمعاء
  مصر اليوم - النوم الهادئ لا يعتمد على الدماغ فقط بل يبدأ من صحة الأمعاء

GMT 10:26 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

إيمي سمير غانم تكشف سر ابتعادها عن التمثيل
  مصر اليوم - إيمي سمير غانم تكشف سر ابتعادها عن التمثيل

GMT 16:37 2025 الأحد ,21 كانون الأول / ديسمبر

تسلا تكشف عن روبوتها الشبيه بالبشر اوبتيموس في برلين
  مصر اليوم - تسلا تكشف عن روبوتها الشبيه بالبشر اوبتيموس في برلين

GMT 16:37 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

صندوق النقد يحث الصين على إصلاحات هيكلية عاجلة لتعزيز النمو

GMT 08:55 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج الأسد الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 09:56 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج الحوت الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 09:41 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 12:19 2018 الإثنين ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مصر تحصد 31 ميدالية متنوعة مع ختام بطولتي الرماية

GMT 13:55 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

الهلال يستضيف الزمالك في ليلة السوبر السعودي المصري

GMT 09:00 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

جرح فلسطين المفتوح

GMT 10:52 2020 الخميس ,19 آذار/ مارس

منة عرفة تكشف حقيقة ارتباطها بـ علي غزلان

GMT 22:21 2018 الجمعة ,06 تموز / يوليو

مصر تشارك في قمة "بريكس" في جنوب أفريقيا

GMT 20:12 2013 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

مجسم "الهنتيكة" في أسيوط لغز محيِّر لم يعلم سره أحد
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt