توقيت القاهرة المحلي 03:53:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هل تعرفون بيرنرز لي؟

  مصر اليوم -

هل تعرفون بيرنرز لي

بقلم : سوسن الأبطح

العالم مدين للمخترع البريطاني تيم بيرنرز لي، بالشبكة العنكبوتية التي غيرت حياتنا وبدّلت مفاهيمنا، ومع ذلك لا نذكره، ولا نردد اسمه، ولم تَمُنّ عليه «نوبل» بجائزتها، مع أنها أعطتها لمن كانوا أدنى منه براعة وتأثيراً، وأقلّ ضميراً وحرصاً على إنسانية اختراعاتهم أيضاً. احتفى قليلون، هذا العام، وبعض الاختصاصيين فقط، بإنجاز بيرنرز لي الرائع الذي مرّ عليه ثلاثون سنة، خلالها تغير مجرى حياتنا، وتبدّلت ممارساتنا اليومية، وعاداتنا المهنية. الرجل لم يخترع الإنترنت التي كانت موجودة ومستخدمة عسكرياً على نطاق ضيق من قبل الأميركيين منذ نهاية ستينات القرن الماضي، لكنه عام 1989 هو الذي جعل للإنترنت شبكة عنكبوتية عبر القارات، تصل إلى كل بيت، وشرّع لها أبواباً ومواقع ومداخل، وأرادها مجانية في متناولنا جميعاً، من دون مقابل. وهو ارتأى ذلك قصداً وإدراكاً وفهماً لما يمكن أن تقدمه من خدمات وتسهله من معاملات.
لكن بعد ثلاثة عقود يراجع بيرنرز لي، الذي لم يكن مخترعاً وحيداً بالطبع، لكنه الأبرز والأهم، حساباته محبطاً من بعض الاستخدامات الشائنة التي لم تخطر له على بال. غالباً ما يفرح العلماء باختراعاتهم كالأطفال، ويصدمون وهم يرون الآخرين يدجنونها كالشياطين. ولا يزال بيرنرز لي يؤمن بأن ثمة ما يمكن فعله، للحد من الأذى المتعمد الذي يمارسه طغاة الشبكة، والاستخدامات المريعة مثل بثّ الأخبار المضللة عمداً، وغسل العقول عند كل مفصل سياسي، كما استغلال البيانات الشخصية بأسوأ السبل وأكثرها امتهاناً للفرد واستخفافاً بخصوصياته. يصعق وهو يرى كيف تم التلاعب بنتائج انتخابات في أكثر من بلد، وحصل التأثير على الناخبين، في مواضع خطيرة، كما في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لا يبدو أن ألفريد نوبل كان متأثراً كثيراً لأن اختراعه للديناميت خرج عن وظيفة تفجير الصخور وشق الطرقات وحفر الآبار، واستخدم في القتل.
كان صناعياً وتاجراً، واستمر في عمله حتى بعد أن قضى شقيقه الأصغر إميل بتفجير وقع بالخطأ، أطاح بالسقيفة على رأسه ومعه آخرون. وأتت الجائزة العالمية التي أوصى بها، بمثابة محاولة تكفير عن ذنب لم يتوقف خلال حياته عن ارتكابه أو حارب من أجل تصحيحه، وهي أيضاً تشبه محاولة تبييض لصورة من الصعب تلميعها.
لكن بيرنرز لي من صِنف إنساني مختلف تماماً. وهو بقي يراقب، من خلال المواقع التي يحتلها أكاديمياً وبحثياً، خلال السنوات الماضية بقلق شديد الانحرافات التي تتعرض لها شبكته الأثيرة، ويسعى لوضع أسس تضبط التفلّت، ولا يزال مؤمناً بأن السنوات الثلاثين المقبلة لا يمكن أن تكون محكومة بفوضى الفترة التي سبقتها. سعى عام 2018 لعقد نوع من ميثاق يضبط حقوق الأفراد والحكومات والشركات، ويضع حداً للتجاوزات، لكنه سرعان ما أدرك أن هذا النوع من القوانين سيبقى نظرياً؛ لأنه لا يلائم مزاج الأطراف الأكثر قوة واستفادة من الوضع الحالي. وهي جهات ستفعل المستحيل لتبقي ميثاقه حبراً على ورق.
حالياً يعمل هذا العالم الفيزيائي؛ الذي كان يفترض أن يكون قد بدأ تقاعده واستسلم لشيء من الراحة بعد كل ما أنجزه إلا إن شعوره بالخطر يؤرقه، مع جامعة ماساتشوستس على مشروع تقني هذه المرة، وليس إنشائياً أو حقوقياً كما المرة السابقة، وقدم الحل الذي لا تريد أن تسمع به الشركات التكنولوجية العملاقة، ويقضي بأن يتم الفصل بين البيانات الشخصية والخدمات الأخرى؛ بحيث يمكن للبيانات أن تبقى محفوظة لدينا، أو على سحب افتراضية مؤمّنة، أو في مكان لا تمتد إليه يد الشركة المستغلة لتبيعها أو توظفها أو تجري إحصاءاتها عليها كيفما شاءت. الخبر الجميل أن مشروع «سوليد» هذا الذي يقوده بيرنرز لي بالنسبة له ممكن جداً تقنياً، وتطبيقه سهل ويمكن أن يوضع محل التنفيذ من دون عراقيل، وقد أنجز بالفعل وعرض على من يعنيهم الأمر.
لكن الخبر السيئ أن هذا النوع من القيود سيقطع أرزاقاً، ويقلص ثروات جبابرة العالم، وحكام الكوكب الجدد، وهو ما سيجعل رغبات مبتكر الشبكة والحالم بحريتها وحياديتها وموضوعيتها، لفترة طويلة من الزمن، ضرباً من الأحلام. والسبب هو نفسه كما في الدول الديمقراطية التي تنحدر إلى منزلقات توتاليتارية ذات أقنعة مبهرجة، لا بسبب دهاء حكامها، وإنما بفضل لا مبالاة مواطنيها ومحدودية وعيهم. فالمواطن الكوني لا يزال سعيداً بأفراحه التواصلية، مبتهجاً بعلاقاته الافتراضية الممتدة في الكوكب، ولا يبدي كبير اعتراض على إمساك الشركات الكبرى بمفاصل حياته، وتفاصيل مزاجه، وحتى أرقامه المالية والبنكية. ولم يحدث لغاية اللحظة أن اتفقت مجموعة بشرية وازنة على مقاطعة، ولو لساعات، لهذه الشركة أو تلك للمطالبة بحقها في حماية خصوصيتها.
هذه اللامبالاة الجارفة من قبل المستخدمين تصعّب مهمة عالم الفيزياء الذي يتفانى من أجل ألا يبقى اختراعه من بعده مسبّة له، وعاراً عليه. وكأنما مخترع الشبكة ومبتكرها الحريص على مسارها، والأدرى بأحوالها، يصيح في وادٍ والمستخدمون المخدوعون يعيشون في وادٍ آخر.
وعلى أي حال؛ من الآن رفضت شركات كبرى كثيرة اقتراح «أبو الويب» وعلى رأسها «غوغل» التي عدّت أن تطبيق مشروعه فصل البيانات وحمايتها الكلية، سيكون خطيراً للغاية، لأن استهداف المعلنين للأشخاص المعنيين بالإعلان سيصبح مستحيلاً. لهذا تعدّ «غوغل» ومعها أخواتها ممن رفضن المشروع، أنها اتخذت ما يكفي من الإجراءات لحماية خصوصية العباد، ولا تستطيع فعل أكثر من ذلك دون أن تخسر إعلاناتها وخدمات أخرى بنتها على ما منحناها من معلوماتنا الأكثر حميمية.
لله درّك يا بيرنرز لي؛ لقد وضعتنا في ورطة، نرفض نحن أنفسنا أن نساعدك في إخراجنا منها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل تعرفون بيرنرز لي هل تعرفون بيرنرز لي



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 06:52 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

نظام غذائي يقضي على التهاب المفاصل بأطعمة متوافرة

GMT 03:14 2021 الجمعة ,03 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تنتقد التبذير في جهاز العرائس

GMT 14:30 2021 الأحد ,04 إبريل / نيسان

"مايكروسوفت" تؤجل إعادة فتح مكاتبها بالكامل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon