توقيت القاهرة المحلي 08:38:15 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الاستشراق الجديد

  مصر اليوم -

الاستشراق الجديد

بقلم : عبد المنعم سعيد

في عام 1978، صدر كتاب د. إدوارد سعيد العربي الفلسطيني الأميركي «الاستشراق» (Orientalism). وكان في العنوان نوع من الاستدعاء لذلك التقسيم القديم بين الشرق والغرب الذي كان مستقراً في التفكير العالمي خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وفي الحقيقة، كان التقسيم قادماً من الغرب الأوروبي، ومن المدارس الأوروبية المختلفة في دول استعمارية أو تصبو لكي تكون. وهكذا، كان الكتاب، وتابعه «كشف الإسلام» (Uncovering Islam)، نوعاً من المقاومة لأفكار وأنماط عن البشر في العالم الإسلامي الشرق أوسطي العربي نجمت عن هذا التقسيم المتعسف بين الشرق والغرب الذي حمل في جوهره أفكاراً متدنية عن الأول، وقدرته على التقدم والحداثة والتطور.
كانت الفكرة الرومانسية عن الشرق التي تكونت عن الشرقيين وعواطفهم وأشعارهم وصحرائهم بنجومها وسماوتها الصافية من خلال الرحالة الأوروبيين في قرون سابقة قد اختفت، وحل محلها تجربة المستعمرين ونفاد صبرهم من عدم اقتناع رعاياهم في الدول المُستعْمَرة بتبني نظم وأفكار الدول المُستَعْمِرة. وبطريقة ما، كان إدوارد سعيد وكتاباته لا تظهر فقط حقيقة الشرق بغير رتوش، بل إنها في الوقت ذاته تفصح أو تفضح ما دفع الغرب (Occident) لاعتقاد ما اعتقد، ووضع أدوات القياس للحكم الأخلاقي والإنساني.
تغير الزمن والحالة العالمية كثيراً منذ سبعينيات القرن الماضي، وكان أول المتغيرات الكبرى ليس فقط انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وإنما اتجاه غالبية دول العالم إلى النظام الديمقراطي وتبادل السلطة سلمياً، ومعها كان اقتصاد السوق والرأسمالية، وفي المحيط الفكري كانت الليبرالية التي تعطي الفرد الإنسان الأسبقية على كل شيء. ومن منظور هذه التغيرات جاءت النظرة إلى العالم العربي بصفته حالة استثنائية لم يكن بمقدورها الاستجابة للنظام الذي أصبح «نهاية التاريخ». وإذا كان لها من توجه فسوف يكون «صراع الحضارات»؛ جاءت أفكار «فوكاياما» و«هنتنغتون» لكي تحدد الإطار الفكري للقرن الحادي والعشرين، وكلاهما جاء من الغرب، من الولايات المتحدة تحديداً، خاصة من جامعات ومراكز بحوث «المؤسسة» الأميركية السياسية والفكرية.
بعد عقد من القرن الجديد، وجد المفكرون والدارسون الغربيون فيما سمي من قبل مستشرقو «الربيع العربي» نوعاً من خروج «الاستثناء» على استثنائه، بالاقتراب من النموذج الفكري الذي تصوروا فيه كمالاً للإنسانية. وعلى مدى العقد الذي مضى، منذ نشوب الهبات والثورات والتمرد في دول عربية، بدأت خيبة الأمل والإحباط تستشري في دوائر فكرية أميركية كثيرة، عادة ما تلقفتها دوائر أوروبية، بأنَّ النظم القديمة قد عادت مرة أخري، وأن «الاستثناء» في النهاية بقي استثناء من الحكمة العالمية.
خلال هذه الفترة، كانت هناك أمور كثيرة مما يدهش؛ أولها أن حكمة لم تأتِ في التعرف على تاريخ الدول الغربية والشرقية في أعقاب الظروف الاستثنائية التي تأتي بعد الثورات والحروب الأهلية والأخرى العالمية، أو تلك التي تلي طفرات التغيير في قوى الإنتاج وتكنولوجياته. في الولايات المتحدة خاصة، لم تستوعب تجربة الثورة الأميركية، وما تلاها من رفض لأفكار الثورة الفرنسية، واستقرار العبودية في الدستور رغم ما كان من حقوق للإنسان في إعلان الاستقلال. ولم تكن تجربة ما بعد الحرب الأهلية أقل اختلافاً، عندما أعقب التعديلات الدستورية قوانين «جيم كراو» التي كرست للعبودية بطريقة أخرى.
وثانيها أن التجربة التي جرت خلال العقد المنصرم، وما صاحبها من يمين «القومية البيضاء» وانتشاره في أوروبا، مع الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، لم يقدم شهادة على ازدهار النموذج الفكري في موطنه الأصلي.
وثالثها أن دراسة وتشريحاً لما جرى في دول الربيع المزعوم لم تحدث لأن الناظرين كانت معادلتهم بسيطة، وهي أنها كانت مواجهة بين الباحثين عن الديمقراطية والمعارضين لها؛ لم يكن هناك ما وحد الشباب الثائر سوى «إسقاط النظام»، وبعد ذلك لم يكن هناك «توماس جيفرسون» ولا «جان جاك روسو»، ولا كان هناك نظام جديد جرى عليه حوار ديمقراطي واحد؛ كان في ميدان التحرير المصري 216 مجموعة سياسية لم تعلم الملايين أسماءها، لا ساعتها ولا حتى الآن.
ورابعها أنه لحل لغز السيطرة الإخوانية على الجماعة الثورية، كان إغفال كل ما هو معلوم موثق عن التطرف والإرهاب والتعصب إزاء المرأة والأقليات الأخرى، وادعاء أنهم جماعة معتدلة ديمقراطية لا تختلف كثيراً عن الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب؛ هكذا كان تزييف ما حدث.
وخامسها أن العقد كله، وسنة الكورونا الأخيرة فيه تحديداً، قد كشف أن التقدم والحداثة وتلبية احتياجات الإنسان وحقوقه الأساسية في العيش الكريم لا تحدث ضمن الإطار الغربي فقط، بل إنها يمكن أن تحدث في بلاد ونظم سياسية واجتماعية أخرى. خلط التعبيرات الأثير لدى المستشرقين الجدد بين الديكتاتورية والأوتوقراطية والاستبداد والأوليغاركية، وكل منها له تعريفاته وحدوده، يبدو عند الاستخدام غير المنضبط ليس أكثر من استدعاء تعيس للاستشراق القديم الذي لا يرى أكثر من وجوه بليدة في الشرق.
والحقيقة أنه لا يوجد خلاف على أن العقد الذي بدأ بالثورات وانتهى بالجائحة لم يكن رحيماً بالشرق الأوسط، والمؤكد أن الثمن كان فادحاً في القتلى والجرحى واللاجئين والنازحين والمدن والحضارة المدمرة، ولكن المؤكد أيضاً أن الزمان لم يدر دورته لكي يعود النظام القديم ويمد جذوره، وما حدث فعلياً هو درس أن الفوضى الشاملة ليست أسلم البيئات للتنمية والإصلاح والتغيير، وإنما هي الطريق إلى حرب الجميع ضد الجميع، وأن التحريض - سواء كان ضد الآراء أو الأقليات أو الطوائف الأخرى - ليس أنجع الطرق لحرية التعبير.
لم تكن العودة إلى الماضي مقبولة ولا ممكنة، بقدر ما كانت الثورة المستمرة لا تقود إلى تقدم، وكان الإصلاح هو السبيل للتغيير والتحديث والتقدم في آن واحد. وهكذا، بينما بدأت خطوات كثيرة لتهدئة حرائق الشرق الأوسط، فإنَّ من كانت لهم نجاة من الربيع المزعوم بدأوا في التحديث العميق الذي لم يكن متصوراً حدوثه في السابق. لم يكن ممكناً أن تحصل المرأة على حقوقها، ولا خلق بدائل كثيرة للنفط، بصفتها محركاً أساسياً للاقتصاد العربي متاحاً، ولا أن يكون الإصلاح الاقتصادي بالعمق الذي جاء، لا في النظم القديمة ولا في الجماعة الثورية، وبالتأكيد بين صفوف جماعة الإخوان المسلمين الذين كانت منارتهم هي النظام السياسي الإيراني.
المدهش أن متابعة ذلك غابت تماماً عن المستشرقين الجدد، حتى لو كانت متابعتها لصيقة من قبل مؤسسات دولية، مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو مؤسسات مالية عالمية تقيم وتضع المراتب في أمور شتى تخص الحداثة، كما تراقب التقدم. المقاييس الاستشراقية التي لا تعرف التنوع الذي يجري في العالم، ولا ما تحتاجه الأمم من مراحل زمنية لكي تنتقل من حالة إلى أخرى، تبدو في تجاهلها لما يحدث، وتغاضيها عما يجري فعلياً في الدول العربية، محاولة للاستيلاء على إدارة بايدن حتى قبل أن تبدأ العمل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستشراق الجديد الاستشراق الجديد



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 13:35 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء
  مصر اليوم - استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt