توقيت القاهرة المحلي 02:58:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

وقفة مع نظرية المؤامرة

  مصر اليوم -

وقفة مع نظرية المؤامرة

بقلم : د. عبد المنعم سعيد

 تذيع نظرية المؤامرة فى الدول المتخلفة، وحتى فى البلدان المتقدمة فإنها توجد عادة فى القطاعات أو المناطق الأقل تقدما والتى تبحث لنفسها عن أعذار خفية لتخلفها. المؤامرة عادة هى نوع من الغيبية السياسية التى تحيد العقل، وتدفع بالعاطفة والغريزة إلى المقدمة، وبسببها تنتهى المسئولية والسببية والبحث العلمي، وطالما أن العالم تحركه قوى خفية فإنه لا يمكن التحقق منها أو مواجهتها. وطالما كان الحال كذلك كما هو ذائع فى العالم العربى فإنه من الممكن أن تكون هناك مؤامرة ومؤامرة مضادة فى نفس الوقت؛ وفى وقت من الأوقات ذاع الاعتقاد أن صدام حسين كان عميلا أمريكيا يقوم بتهديد دول الخليج فيكون استنزافها فى شراء سلاح يحميها، وفى المقابل كان صدام ومعه كثرة من اليساريين يعتقدون أن حكام الخليج هم عملاء أمريكا لتدمير العراق الذى يرفع راية القومية العربية. فى المؤامرة فإن الكل عملاء بشكل أو آخر عن قصد أو غير قصد، وهناك مؤامرة يقوم بها الغرب كله وأحيانا أمريكا وحدها، وكلاهما تحركه إسرائيل بينما هى ذاتها مخلب قط للإمبريالية التى هى مخلب قط للغرب وأمريكا معا لإضعاف وإذلال العالم العربى كله بسبب ما لديه من نفط فجرته شركات غربية، ومال نجم عن استيراد الغرب للنفط. لماذا لم يحدث ذلك لليابان أو للصين أو للنمور الآسيوية أو الفهود اللاتينية؟. لا أحد يعرف!.

جوهر نظرية المؤامرة لدينا أن الآخر أيا كان يكرهنا، مرة لأننا عرب، ومرة أخرى لأننا مسلمون، ومرة ثالثة لأن لدينا نفطا، ومرة رابعة لأن لدينا أموالا، ومرة خامسة لأننا فقراء وضعفاء؛ إنها الكراهية وكفى ممتدة منذ الحروب الصليبية وربما قبلها أيضا. هذه الصفات جميعها تجتمع لدى اللاعب المصرى محمد صلاح، فهو مصرى وعربى ومسلم ولديه مال وهو القادم من قرية نجريج الفقيرة مثل الغالبية من قرى مصر. ومع ذلك فإن الرجل محبوب إلى الدرجة التى جعلت جماهير فى «ليفربول» التى لم يسمع بها لا المصريين ولا العرب ولا المسلمون إلا منذ فترة قصيرة، يغنون من أجله أغانى كثيرة تشيد به وموهبته وقدراته. أكثر من ذلك فإن ذات الجماهير فى المدينة البعيدة فى قلب المملكة المتحدة منحته لقب «ملك مصر» ليس لأنهم يعتقدون أن مصر دولة ملكية، وإنما لأنهم يربطون بين قدرات اللاعب والقدوم من حضارة عظيمة كان الغرب هو الذى اكتشفها وفك طلاسمها وقدمها لنا لكى نعرف الكثير عن أصولنا. أصبح الفراعنة حاضرين ليس فقط فى الملاعب البريطانية، وإنما فى الملاعب المصرية أيضا!.

محمد صلاح يفعل كل ما يثير السخط عليه لو أن نظرية المؤامرة على العرب والمسلمين قائمة. فالرجل يدخل الملعب وهو يبسمل ويحوقل داعيا الله عز وجل أن يوفقه فى مباراته التى يدخل عليها. هو يفعل ذلك بنوع من التسليم الجميل الذى يعطيه سماحة محببة، فرغم قدراته الرائعة، ورغم ما يتعرض له من برنامج تدريب قاس، ورغم التزامه التام فى ذهابه ورواحه، فإنه يتوجه إلى الله بالدعاء طلبا للعون والبركة. مثل ذلك فى دول الغرب ليس نوعا من التواكل، وإنما هو تأصيل للتواضع، وكبح الغرور، ومنع الغطرسة. الهيئة جعلت محبا مثل كاتبنا القدير صلاح منتصر يخاف عليه من هيئته حيث اللحية والشعر الكثيف حتى لا تختلط الأوراق بين السماحة والإرهاب لدى الجماهير الغربية التى استبدت بها الظنون بكل عربى ومسلم. ولكن صاحبنا لا يحتاج إثباتا على صلاحه من أحد، وربما لديه من الثقة فى المجتمع الذى يلعب فيه أن لديه القدرة على التمييز بين الإرهابيين والصالحين. سجود اللاعب عقب كل هدف شكرا لله لم يكن صلاة من أجل عملية انتحارية، وإنما كانت شكرا على أداء الواجب، والقيام بما يجب عليه من تقديم المتعة، وتجسيد العبقرية الرياضية. لدى الجمهور كانت الحروب الصليبية قد انتهت، أو أنها توقفت عند من يعمل ويجاهد ويسجل الأهداف، وأكثر من ذلك يعرف المقاصد أيضا.

فى أوروبا والبلدان المتقدمة يعرفون الأصول جيدا، ولا تختلط لديهم الأمور إلا فى أوقات تغيم فيها المعلومات، وفيما يتعلق بصلاح فإن تقييمه جاء من أفعاله، سواء كانت تلك التى يفعلها فى مصر من مقاومة المخدرات أو تقديم العون لتقدم قريته. صلاح لم يبتعد ولم يتنكر، وبالمقارنة بلاعبين آخرين، أوروبيين وعرب، فإنه يعرف معنى أن يكون خيرا وبناء ووطنيا متحمسا قاد فريق بلاده إلى كأس العالم بعد 28 عاما من الغياب، ومصمما على أن يكون لمصر مكانة عندما تبدأ المباريات فى موسكو. سليل الفراعنة هو الصورة المتقدمة للمصريين والعرب عندما يكدون ويعملون ويكافحون ويطلبون العلا والمجد يوما بعد يوم وعاما بعد عام. الصلوات ليست نوعا من النفاق الدينى للذات أو للحكم على الآخرين بالزيف فى المعتقد، وإنما هى بحث إنسانى عن السلام الروحى الذى لا ينفى حق الآخرين فى نفس البحث. يكفى علاقته الوثيقة بالأطفال سواء كانوا فى مصر أو فى بريطانيا لأن البراءة تكفى لبث نفحات وتجليات العلاقة الإنسانية.

هل تذكرون ذلك المشهد الذى ذهب فيه لاعبنا إلى الطفل الذى طلب منه رداءه لكى يمنحه إياه فتنفجر الجماهير بالتصفيق والغناء تحية وتقديرا. صلاح وضع يده على سر أسرار العلاقة بين العرب والمسلمين والعالم، فإذا كنا نريد مكانا حقا فى دنيانا فإن الدنيا سوف تعطينا ما نريد من مكانة إذا عملنا ما يعملون، واجتهدنا كما يجتهدون، وقدمنا للإنسانية من العلم والتكنولوجيا وحتى من التراث ما يقدمون بما فيه تراثنا نحن الذى كان يوما ما من بناة الحضارة البشرية. قولى هذا ليس جديدا على أحد، ولكن هناك بيننا من يعتقدون أن الكراهية لنا هى نوع من الأقدار المحتومة والقضاء النافذ، وربما آن لهم تأمل هذا النوع من معالجة مشاعر سلبية بدلا من اعتبارها نوعا من ثوابت الطبيعة التى يستحيل تغييرها.

نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وقفة مع نظرية المؤامرة وقفة مع نظرية المؤامرة



GMT 02:58 2024 الأحد ,05 أيار / مايو

عبودية لطيفة

GMT 02:54 2024 الأحد ,05 أيار / مايو

تحديات القمة العربية في البحرين

GMT 02:52 2024 الأحد ,05 أيار / مايو

أهكَذا «البدرُ» تُخفِي نورَهُ الحُفَرُ؟!

GMT 02:49 2024 الأحد ,05 أيار / مايو

عن «الرجل الأبيض»!

GMT 16:35 2020 الخميس ,22 تشرين الأول / أكتوبر

6 خطوات لتجنب الوقوع في أخطاء فواتير الكهرباء

GMT 10:40 2020 الخميس ,22 تشرين الأول / أكتوبر

كهربا يستعد للمشاركة مع الأهلي في «موقعة الوداد»

GMT 06:41 2020 الخميس ,03 أيلول / سبتمبر

الطب الشرعي يوقع الكشف على ابنة نهى العمروسي

GMT 22:53 2020 الجمعة ,21 آب / أغسطس

الصين تسجل 22 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 07:42 2020 الأربعاء ,27 أيار / مايو

10 نجوم بالمجان في دوري أندية أوروبا

GMT 23:22 2020 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

غضب شعبي من تصوير مشاهد إباحية داخل جامعة في تايلاند
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon