توقيت القاهرة المحلي 16:16:37 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ثلج أقل بياضاً

  مصر اليوم -

ثلج أقل بياضاً

بقلم :نيفين مسعد

ها هو الثلج يتساقط من وراء زجاج البلكونة المطلة على الحديقة، وهذا أمر معتاد جداً في شهر ديسمبر من كل عام في تلك البلاد البعيدة. وكالمعتاد أيضاً تعزف الصغيرة على البيانو بجوار البلكونة، لكنها على غير المعتاد لا تهتم بما يحدث في الخارج، ولا تلقي حتى نظرة على الكرات البيضاء وهي تدق على باب البلكونة تريد أن تأخذ الإذن بالدخول. في أحوال أخرى كانت حلا تندفع إلى الخارج لتشارك في الاحتفال بنزول الثلج من السماء إلى الأرض، من أول اللحظة التي يكون فيها الثلج عبارة عن نتف رفيعة جداً كمثل الحلاوة الشعر وحتى يتحول إلى كرات صغيرة تروح تكبر مع الأيام. كانت تشعر حلا أنها تؤدي مهمة مقدسة وهي تحمل الثلج المتساقط في كفيها وتوسده برفق فوق العشب، إلى هذا الحد كانت تترفق به مخافة أن يرتطم بالأرض فيُشطَر أو ينكسر، ومن الداخل كان يأتيها صياح الأم. كثيراً ما حذرتها أمها من أنها إن مكثت طويلاً تلعب بالثلج قد يصبح أنفها طويلاً مثل أنف بينوكيو، وفي البداية انطلى عليها الأمر فهي لم تكن تعرف لماذا أصبح أنف بينوكيو طويلاً بهذا الشكل إلى أن أخبرتها أمها أنه أصبح كذلك بعد أن تساقط عليه الثلج، قالت لها: كل حبة ثلج سقطت عليه كانت تمطه قليلاً إلى الأمام حتى انتهى أمره إلى ما انتهي إليه، سألت حلا في رعب: أولم يكن أنفه ينكمش في الصيف؟ لا لم يكن ينكمش. ظلت حلا موسمين على الأقل كلما خبطتها كرة من كرات الثلج تتحسس أنفها لتطمئن إلى أنه مازال على حاله، ثم اكتشفت أن هناك خدعة كبيرة في الموضوع، وأن أمها كانت تراهن على أن الوقت لسه بدري حتى تعرف حلا أن أعضاء الجسم قد تتورم لكنها لا تتمدد، وأن قوانين الطبيعة التي تحكم حركة السوائل لا تسري على أنفها، وحينها ضحكت من قلبها الصغير وهي تتذكر جملة سعيد صالح الشهيرة: الناس معادن تتمدد بالحرارة وتتبربر بالبرورة، ولم تعد تخاف.
***
استمرت حلا في عزفها الجميل وقد صنعت داخل نفسها جداراً عازلاً يفصل بين صوت الموسيقي وصوت الثلج، شكراً لهذه الجدران الحنونة التي كثيراً ما وفرت لها الحماية من هزات نفسية كان يمكن أن تعصف بها كلما تعرضت لصدمة مفاجئة. عندما رحلت جدتها فجأة وكانت ملء السمع والبصر أشفق عليها الجميع، فحلا هي بنت الابنة البكرية وأول فرحتها ثم وهذا هو الأهم فإن جدتها كانت تكرر كثيراً أنها تشبهها وإن لم تكن في الحقيقة تشبهها، لكن بمنطق دع الأشياء الصغيرة تفرح أحبتنا- كثيراً ما استمعت حلا لأقاربها يقولون إنها فولة وانقسمت نصين مع جدتها. كانت صبورة عليها، تحكي وتُحَمي وتَحْمي وتعلم وتلاعب وتغدق، وكانت تسْلم رأسها لحلا متى شاءت لتصنع لها ضفيرتين رماديتين رفيعتين لكن لطيفتين، ثم وبعد كل هذا تفارقهم دون وداع وتذهب عند ربنا. لم تتعمد حلا أن تصنع جداراً داخلياً عازلاً بينها وبين سيل الذكريات الحميمة التي كانت تحاصرها من الجهات الأربع، لكن ماكينتها الشعورية اشتغلت بهمة نادرة وخلقت مفاصلة تامة بينها وبين تاريخها مع جدتها كأن شيئا لم يكن أو كأنها لم تر جدتها أبداً. كانت تسمعهم يستغربون من أنها وهي الحفيدة المدللة تتعامل بهذه اللامبالاة مع ظاهرة الموت، لكنها عندما وجدت نفسها بين خيارين: دهشتهم وانهيارها اختارت أن تدهشهم. وبعد ذلك تكرر الأمر في مناسبات عديدة.
***
عندما هاجمتنا كورونا قبل شهور فقد موسم الثلج متعته، وُضِعَت قيود صارمة على اللمة والتواصل واللعب المشترك هنا في المنزل وهناك في المدرسة. كانت حلا تتصل بليديا أو إيميلي أو روزي أو آدم أو أيِ من أبناء الجيران ليتشاركوا معاً في تقاذف كرات الثلج وفِي بعض الأحيان كانت هي تذهب إليهم. كان بينهم ثأر وانتقام وانتصارات وهزائم وشجار، وبعض خلافاتهم كانت تُحسَم في فناء المدرسة بعيداً عن عيون الأهل ورغماً عن أنف بينوكيو. لكن هذا كله لم يعد متاحاً، صدرت الأوامر بألا يجتمع أكثر من عشرة، أكثر من خمسة، أكثر من ثلاثة.. وماذا بعد؟ حاوَلت أن تسلي نفسها وتبحث عن السعادة في داخلها، لكن المنفعة الحدية للعب ترتفع في حالات التشارك وبالتدريج لم يعد هناك من يشاركها. بدا لها الثلج أقل بياضاً من عادته، أقل تكوراً، أقل جاذبية، ونشطت ماكينتها الشعورية من جديد، تكّون جدار عازل جديد في داخلها وأخذ يرتفع بالتدريج حتي أشرق عليها صباح أحد الأيام صارت تندهش فيه من أن الثلج كان زماااان يثير فضولها لمجرد أنه يعتلي الأشجار والأبنية وأعمدة الإنارة. انتبهت حلا إلى أن الشيء عندما يكون بمثل هذه الوفرة ومثل هذا الانتشار- تنكسر استثنائيته ويتوقف عن إثارة الفضول وهذا ما حدث معها، في الحقيقة هي حاولت أن تقنع نفسها بأن كل متاح غير مرغوب حتي تمرر لحواسها فكرة أن الثلج لم يعد يبهج.
***
لو أن كورونا جاءت قبل عامين عندما كانت حلا أقل وعياً ربما ما احتاجت أمها أن تخترع لها حكاية بينوكيو لتثنيها عن اللعب بالثلج فهي من نفسها لم تكن ستلعب، لكن الحمد لله الذي منح حلا وكل الأطفال عامين بدون كورونا يستمتعون فيهما بلون الثلج وملمسه. مرت الأم على صغيرتها وقد طال عزفها على البيانو، لاحظَت إهمالها تساقط الثلج على غير عادتها فقلقت وكل تغير في سلوك الأبناء يقلقنا نحن الكبار، حاولَت أن تتخابث قليلاً فقالت: كل سنة وأنت طيبة يا حبيبتي التلج نزل. ابتسمت حلا ابتسامة مجاملة واختارت موسيقي أغنية those were the days وراحت تعزفها في توحد تام.. يااااه.. مازال شيء في داخلها يحّن لأيام زمان .

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثلج أقل بياضاً ثلج أقل بياضاً



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 13:13 2024 السبت ,20 إبريل / نيسان

مقتل مراسل عسكري لصحيفة روسية في أوكرانيا
  مصر اليوم - مقتل مراسل عسكري لصحيفة روسية في أوكرانيا

GMT 18:31 2020 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

آندي روبرتسون يخوض لقائه الـ150 مع ليفربول أمام نيوكاسل

GMT 06:47 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز بعد نهاية الجولة الـ 13

GMT 02:10 2020 الخميس ,10 كانون الأول / ديسمبر

7 أسباب تؤدي لجفاف البشرة أبرزهم الطقس والتقدم في العمر

GMT 22:29 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

أحمد موسى يعلق على خروج الزمالك من كأس مصر

GMT 11:02 2020 الجمعة ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرّف على أعراض التهاب الحلق وأسباب الخلط بينه وبين كورونا

GMT 03:10 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

زيادة في الطلب على العقارات بالمناطق الساحلية المصرية

GMT 22:14 2020 الجمعة ,18 أيلول / سبتمبر

بورصة بيروت تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,21 إبريل / نيسان

خسائر خام برنت تتفاقم إلى 24% في هذه اللحظات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon