توقيت القاهرة المحلي 02:31:55 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حكاية مدينتين أو أكثر من خلال صباح

  مصر اليوم -

حكاية مدينتين أو أكثر من خلال صباح

خيرالله خيرالله

عاشت صباح بين مدينتين. عاشت بين القاهرة وبيروت. قصتها تختزل مأساة المدينتين. تختزل ما تعرضت له القاهرة، وما لا تزال بيروت تتعرض له من القوى الظلامية.

حكاية صباح التي ودّعها لبنان الأحد الماضي ليست حكاية امرأة استثنائية صنعت نفسها من لا شيء فحسب، بل هي حكاية مدينتين أيضا. إنّها حكاية بيروت والقاهرة ومدن عربية أخرى كانت تصنع نجوما يصبح لديهم وجود في العالم. ماتت صباح عندما ماتت القاهرة كمدينة الفن والسينما والغناء والموسيقى العربية. ما بقي حيّا من صباح، كان ما بقي حيّا من بيروت التي احتضنت النجمة بدفء وحنان وحمتها حتّى اليوم الأخير من حياتها بعدما جار عليها الزمن ولم يبق سوى عدد قليل من الأصدقاء ظلوّا أوفياء للـ”الشحرورة”.

من خلال الحياة الحافلة لصباح يكتشف المرء السقوط المريع للمدن العربية بفعل اجتياح القرية للمدينة. من خلال صباح، التي غنّت في باريس ولندن ونيويورك، في الصالات التي لم يدخلها، ولن يدخلها، سوى كبار النجوم العالميين، تتكشّف الفضيحة العربية.

ما صنع صباح كان القاهرة، وذلك على الرغم من أن النجمة تحوّلت لاحقا إلى جزء لا يتجزّأ من كلّ ما هو لبناني. صنعتها القاهرة التي ذهبت إليها المغنّية اللبنانية في الأربعينات من القرن الماضي هربا من ظلم الوالد، ومن ضيق سبل العيش في لبنان. كانت القاهرة مصنعا للنجوم. كانت ممرّا إجباريا لكلّ من يحلم بالنجاح. كانت باختصار هوليوود العرب. لا اعتراف بفنّان عربي إذا لم يصنع مجده في القاهرة. هناك استثناءات قليلة في لبنان والعراق، حيث كانت فيروز صناعة لبنانية خالصة بفضل عبقرية الرحابنة. يمكن أيضا الحديث عن فنانين عراقيين مثل ناظم الغزالي لم يحتاجوا إلى القاهرة. لكنّ القاهرة بقيت فترة طويلة المكان الذي من دونه لا فنّ ولا غناء ولا رقص عربيا.
    
    

ما صنع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وآلاف الفنانين والمطربين والممثلين والملحنين، كانت القاهرة التي أنجبت أيضا عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة ومحمّد عبد المطّلب ورياض السنباطي وكثيرين غيرهم، وقبل ذلك سيّد درويش. احتاجت وردة الجزائرية إلى القاهرة لتثبت أنّها مطربة عربية كبيرة.

كانت القاهرة عاصمة العالم العربي. ذهبت إليها صباح باكرا، وخرجت منها باكرا بعدما بدأ الريف يجتاح المدينة شيئا فشيئا مع سقوط القاهرة الكوزموبوليتية ومعها الإسكندرية والإسماعيلية في العام 1956.

من حسن الحظ أنّه كانت هناك بيروت التي بدأت بدورها تزدهر من منطلق أنها مدينة عالمية أيضا. في بيروت بقيت صباح تلمع. ولكن في نهاية المطاف، لم يكن هناك ما يعوّض عن القاهرة التي جعلت منها نجمة سينمائية أيضا. كان في إمكان القاهرة اجتراح المعجزات. لم تكن صباح نجمة سينمائية لولا القاهرة، علما أنّها كانت مطربة تمتلك صوتا خارقا لا يختلف إثنان في شأنه.

لم يكن أفول نجم القاهرة، أفولا لنجم العاصمة المصرية، ومعها مصر، فقط. كان أفولها أفولا لنجم المدن العربية الأخرى. من دون القاهرة، لم تعد بيروت قادرة على الصمود في وجه الهجمة الهمجية التي تعرّضت لها ابتداء من 1975. كانت هناك حاجة إلى معجزة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بيروت. من دون القاهرة لم يعد من وجود لدمشق وبغداد. ففي سوريا والعراق، تولّى حزب البعث ترييف المدينة عن طريق الذين أتى بهم حافظ الأسد للاستيطان في دمشق، هو الذي كان يكره أهل المدن السنيّة الكبيرة بكل ما يمثلونه.

كان يكره كلّ ما له علاقة بالبورجوازية الآتية من مذاهب وطوائف متنوّعة، والتي صنعت، أصلا، مجد دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية والقاهرة والإسكندرية والإسماعيلية ومدن القناة.

وفي العراق، وضع صدّام حسين الأسس لعملية ترييف إحدى أكثر المدن العربية عراقة، عندما لم يدرك أن على الريفي الآتي إلى المدينة التعلّم من عاداتها ومن تسامحها وثقافتها، بدل فرض قيمه على أهلها.

مع وصول البعث إلى السلطة في العراق، ومع سقوط النظام الملكي قبل ذلك في العام 1958، لم تعد بغداد بغداد، ولم تعد البصرة المكان الذي يأتي اليه الخليجيون للاستمتاع ببعض ما هو حضاري في هذا العالم.

تعتبر صباح، نموذجا للفنان العربي الذي صنعته المدن العربية. كانت نتاج القاهرة قبل بيروت، لكنّها كانت موجودة في دمشق وبغداد والكويت وعمّان. وصلت إلى الرباط ثمّ إلى باريس ولندن ونيويورك وسيدني.

أكّدت بيروت، بعد كلّ ما تعرّضت له العاصمة المصرية من ظلم، أن لبنان كان قادرا، قبل أن يصبح ضحية ممارسات النظام السوري والوجود الفلسطيني المسلّح ثمّ الميليشيا المذهبية المعروفة، على تعويض بعض ما تعنيه القاهرة القديمة خصوصا، ومصر عموما.

ليس الغياب العربي عن بيروت في هذه الأيّام سوى تعبير عن الرغبة في خنق المدينة العربية الوحيدة التي لا تزال قادرة على صنع نجوم، حتّى لو كان هؤلاء من المنتمين إلى الفنّ الهابط. على الرغم من كلّ ما تتعرّض له بيروت، لا تزال المدينة تقاوم. تقاوم بفضل من أعاد بناءها ومن سعى إلى مساعدة صباح، قدر الإمكان، في وقت تخلّى عنها كثيرون.

ليست صباح بحياتها المديدة سوى شاهد على ما حلّ بالمدن العربية. كانت، في مرحلة من المراحل، معزّزة مكرّمة في كلّ مدينة عربية. لو كانت صباح لا تزال في شبابها الآن، لم تكن لتجد مكانا تقيم فيه سوى بيروت. بين كلّ المدن في منطقة المشرق العربي، وحدها بيروت ما زالت تقاوم. رحم الله من جعلها قادرة على المقاومة. رحم الله من مكّنها من الصمود بعدما أعاد بناء وسطها المدمّر. رحم الله، وحفظ أبناء، من ساعد صباح على الصمود أيضا، وعلى أن تمتلك ما يقيها الذلّ عندما تقدّم بها العمر.

كان اللبناني في الماضي يذهب إلى القاهرة والإسكندرية، وإلى مصر عموما، هربا من الظلم والفقر.

هذا ما فعلته صباح وهذا ما فعلته مئات، بل آلاف العائلات اللبنانية، التي أقامت في الإسكندرية والإسماعيلية والسويس وحلوان والمنصورة. كانت مصر ملجأ للبنانيين. كانت القاهرة تفرّق بين الفنّان وغير الفنان، بين المطرب وغير المطرب، بين الممثّل وغير الممثّل. كانت تصنع حتّى الكتاب والصحافيين، قبل أن يأتي زمن جريدة القارئ الواحد، أي الجريدة التي ليس مطلوبا سوى أن تعجب “الريّس” لدى استفاقته من النوم.

عاشت صباح بين مدينتين. عاشت بين القاهرة وبيروت. قصتها تختزل مأساة المدينتين. تختزل ما تعرّضت له القاهرة، وما لا تزال بيروت تتعرّض له من القوى الظلامية. لكنّ صباح تختزل أيضا ما حلّ بالمدن العربية الأخرى في مصر والمشرق العربي. من يصدّق أن بعلبك، بكلّ ما تمتلكه من تراث وإمكانات وكنوز وآثار، زالت عن الخريطة الحضارية والسياحية والثقافية للمنطقة؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حكاية مدينتين أو أكثر من خلال صباح حكاية مدينتين أو أكثر من خلال صباح



GMT 02:31 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

... عن الاحتجاجات الطلابيّة في الغرب وعن حدودها

GMT 02:28 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

الدعم المطلق

GMT 02:27 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

حوار الملك... وقمة المنامة

GMT 02:22 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

الحنق المُؤجَّل

GMT 02:18 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

قمة السقف العالي

GMT 02:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

العلم المصري متى يرفرف على (الريفييرا)؟

GMT 02:12 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

شهادة كوهين!

GMT 02:09 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

هل يستقيم ظل الاقتصاد وعوده أعوج؟

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:00 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

إسرائيل تتوغل في رفح ومعارك تحتدم في شمال غزة
  مصر اليوم - إسرائيل تتوغل في رفح ومعارك تحتدم في شمال غزة

GMT 00:31 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

أحمد حاتم يكشف كواليس انفصاله لأول مرة
  مصر اليوم - أحمد حاتم يكشف كواليس انفصاله لأول مرة

GMT 14:26 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تتركز الاضواء على إنجازاتك ونوعية عطائك

GMT 00:03 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الكويت يتأهل إلى نهائي كأس ولي العهد بهدف قاتل على النصر

GMT 21:03 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

أياكس أمستردام يضم مدافع منتخب الأرجنتين

GMT 12:23 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

"جبل الصايرة البيضاء" موقع سياحي مهجور رغم إمكاناته الكبيرة

GMT 11:51 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

طوارئ في مطار القاهرة استعدادًا للتفتيش الأمنى الأميركي

GMT 19:40 2015 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ثلث أشجار الأمازون ونصف أنواعها مهددة بالإندثار

GMT 19:50 2015 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

يرقة الفراشة اليابانية تتحول إلى براز لتحمي نفسها من الطيور
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon