توقيت القاهرة المحلي 12:01:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

  مصر اليوم -

  مصر اليوم - أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء            ( في رثاء أمي الراحلة)

الكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع
بقلم ؛ شوقي بزيع *

يحكى أن امرأة من حرير النعاس وألق المياه في الغدران ، مرت كنعمة إلهية على هضاب جبل عامل , وأن جمالها كان ينبع من أماكن سحيقة في الروح , ثم يشرق على الياسمين فيتضاعف بياضه , وعلى الرمان فتكتمل استدارته , وعلى الدفلى فيضرج بحمرة الخجل وجنات النساء . كان اسمها نوفاً ويعني الرفعة والسمو , وصادف أن عشقها فارس وسيم من مواليد برج الأسد , بدا أبوه حين سماه مصطفى وكأنه يتنبأ له بأنه سيصطفي من نساء قريته الوادعة أكثرهن شبهاً بتوت الجبال البري , وكان وجهها الأبيض العرائسي  يتوزع مناصفة بين  الزغاريد والمناحات , أو بين أحزان زينب وجبين سكينة الوضاء  . وبعد أعوام قليلة من زواجهما الميمون , كان الصبي الذي كنته آنذاك , يصغي من خلف قماط سريره الخشبي الى صوتها المترع بالشجن , وهو يردد واجفاً وبلا ظهير :
يا حادي العيس سلم لي على إمي \ واحكي لها ما جرى واشكي لها همي  
من ذلك الحداء المحمول على هوادج الحسرات بدأ العالم يبث إشاراته الأولى . كنت أرنو الى مصدر الصوت فأرى في  وجهها المنذور للعذوبة ما يعصمني من الخوف , ويضيء لي الممر الآمن الى المستقبل . أما الصوت نفسه فقد بدا مقتطعاً من حنين النايات الى قصبها الأمومي على ضفاف الأنهار . لم أكن يومها أعرف شيئاً عن العيس التي يقطع ثغاؤها السرمدي نياط الصحارى , ولكن الحداء الحزين كان يشي بانقلاب الأحوال ، وبأن الإبن الذي سيهبط ذات صباح من أعالي القرى باتجاه الفولاذ الأصم لعواصم الاسمنت , ستسلمه المنافي من متاهة الى متاهة , فيما أمه البعيدة ستناديه من خلف ظهر السنين " لا تبتعد يا بني \ ولا تنس ما عشت \ أن السرير الذي انبجست منه روحك عند الولادة \ ما هو إلا ضريحك عند الممات " .
وإذا كانت حيرتي لا توصف إزاء وقائع مجهولة المصدر لمعنى الحداء , فقد عرفت حين كبرت أن من بين ما جرى كان تعرضَ شعب بكامله للاقتلاع . على أن المواجهة مع الغاصب المحتل لم تقتصر في وقت لاحق على السلاح وحده , بل كانت تؤازرها الجباه المرفوعة الى الأعلى وجذوع السنديان ونظرات الغضب . وكانت أمي كلما أشارت الى جهة القبلة , حيث تتراصف شجرات الكينا الثلاث عند خطوط التماس مع العدو , وضعت الكرامة إصبعها على الزناد , وتلفّعت الحريةُ بملاءات الغضب , وتدثر دم الشهداء بشقائق النعمان , مرسّماً  للقادمين من بعده خارطة الوصول الى فلسطين .
ولم تكن أم شوقي بهذا المعنى امرأة بعينها فحسب , بل كانت في بعدها الرمزي الحارسةً الأمثل لزمن الهناءة الوردي ، وآخر ما تبقى  من سلالة النقاء الطهور والمحبة الصافية ، والقيم الآيلة الى الانقراض . كما كانت تحمل الكثير من خصال الطبيعة , فتحلو مع عسل التين ويتضوع عطرها مع طرابين الحبق , وتشفُّ مع نسائم الصيف حتى تصبح حالة من أحوال الدموع . ومع أنها لم تكن تعرف القراءة والكتابة , إلا أنها كانت قادرة بالفطرة , وبأكثر الحدوس نجاعةً , على قراءة ما يجول في خاطر الريح , وتسمع نمو الأعشاب ، والثغاء الطفولي لصغار الينابيع , وتستعيد عن ظهر قلب الأدعية التي تستنزل المطر , والرقى التي تحمل الأزهار على التفتح . وكانت تراسل السماوات لكي لا تصاب الحقول بالجدب , ولكي لا يكون لشتلات التبغ كل هذا القدر من المرارة , وتحدب على أحواض الزهور ,حدبها على أبنائها الستة  وبناتها الثلاث . ومرة ضبطها أبي وهي ترشو طيور الحمام بحفنة من القمح ، مستحلفة إياها أن تخلد ولو ساعة واحدة الى الصمت ، لكي لا يوقظ هديلها الصباحي أطفالها النائمين . وكانت أم شوقي من الرقة , بحيث لا تكتفي بترقيق أرغفة الخبز على صاج اللهفة الجوعى , بل كانت ترقق القلوب لكي تصفو من الضغائن , والرياح لكي تصبح لها خفة النسيم , وكانت ترقق بالطريقة نفسها شقاء العالم ، لكي تصبح الحياة قابلة للاحتمال .

يا أم شوقي , وأنت ترقدين الآن هانئة بين قبري الزوج والشقيق , متخففة من وخزات الحقن وأجهزة قياس الضغط وأنابيب التنفس , نادي على أبنائك التسعة لكي يتحلقوا مجتمعين حول بركة دعائك البتولي . نادي على حسن وإحسان وغسان ومحمد وحسين , وعلى منى وسناء وليال , لكي نتعرف على ذواتنا في هذا العراء الخاوي , وكي نشعر أننا ما زلنا على قيد الحياة . ويا أم شوقي امنحيني خفقة من وجيب قلبك , لأضمّد بها جروح الروح ، وأحرر البلاغة من جمودها العنّين . أعينيني على خرسي لأقوى على الكلام , ساعديني أنا يتيمك السبعيني ، على احتمال كل هذا الألم , اجعلي من بريق نظرتك الحنون عكازاً أستعين بها على تعب كهولتي المضني , وأعيدي الى قصيدتي المخنوقة وهجها القديم .
ويا أم شوقي
خذي كل ما أودعتني العواصم من فرح خلبيٍّ
وما جذب القلب مثل المخالب من كهرباء النساء
ومن صعقة اللغة الخاطفه
خذي ألق الواجهات الكذوب ،
وأعيدي إلي النسيم القديم
يهب عليلاً على حبق البيت ،
عودي بأجفاني القهقرى نحو ذاك الحداء الشجي
الذي كان يصعد بي لثغةً لثغةً سلّم التأتأه
فأنا خائفٌ مثل عصفورةٍ عالقه
في كمينٍ من الشوك ,
مستوحشٌ مثل أرملة تتأمل بين التجاعيد
أعقاب فتنتها السالفة
وأنا دون نومي يهدهده حزنك المريمي
هالك لا محاله
أريد يديك لأنجو
ذراعيك كيما أرفرف فوق حطامي ككسرة ضوءٍ
وأهزم هذا الزمان الحثاله
فهل لي بتنهيدةٍ منك ،
 هل لي بجرعة ماءٍ ،
بترنيمةٍ من نعاس الطفولةِ ،
كيما أشدّ على عطشي المستبدّ
وأشرب حتى الثماله.
شوقي بزيع كاتب وشاعر لبناني*

egypttoday
egypttoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء             في رثاء أمي الراحلة أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء             في رثاء أمي الراحلة



GMT 16:20 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

وهم التفوق

GMT 11:55 2023 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

فلسطين والقدس الأبية

GMT 08:47 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 12:57 2022 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 22:00 2022 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مسرح "الراويات" المنسي والمغيب

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 17:19 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

لافروف يتهم أوروبا بعرقلة جهود السلام في أوكرانيا
  مصر اليوم - لافروف يتهم أوروبا بعرقلة جهود السلام في أوكرانيا

GMT 11:25 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

شمس البارودي تهاجم الشللية في الوسط الفني بسبب نجلها
  مصر اليوم - شمس البارودي تهاجم الشللية في الوسط الفني بسبب نجلها

GMT 06:13 2025 الثلاثاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الثلاثاء 02 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 04:43 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تدعم حظر الهواتف المحمولة في المدارس الابتدائية

GMT 02:17 2020 الأحد ,26 تموز / يوليو

فيسبوك تقضي على Zoom بعد إطلاق App Lock

GMT 19:18 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حريق محدود بـ كابل كهرباء في الطالبية بمحافظة الجيزة

GMT 17:32 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

22 لاعبًا في قائمة الزمالك لمواجهة الإسماعيلي في الدوري

GMT 14:01 2025 السبت ,01 شباط / فبراير

مقتل 18 جندياً في باكستان على يد مسلحين

GMT 10:28 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

إنفانتينو يقرب السعودية من تنظيم كأس العالم 2034

GMT 20:45 2022 السبت ,04 حزيران / يونيو

انطلاق كأس العالم للرماية الأحد المقبل

GMT 23:18 2021 الأربعاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

أبرز 5 سيارات كورية طرحت في السوق المصري لعام 2021

GMT 09:05 2021 الأربعاء ,10 آذار/ مارس

طريقة عمل الروستو

GMT 10:12 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

والدة طفلة التعرية ترفع قضية إثبات نسب جديدة

GMT 06:22 2020 الجمعة ,02 تشرين الأول / أكتوبر

السيسى يصدق على تعديل بعض أحكام قانون السجل التجارى
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt