توقيت القاهرة المحلي 13:01:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الرسم بالدم (1 - 3)

  مصر اليوم -

الرسم بالدم 1  3

عمار علي حسن

من بين فصول حرب الخليج الثانية التى اندلعت فى يناير من عام 1991 وأطلق عليها اسم «عاصفة الصحراء»، لا تزال ذاكرة العالم محتشدة باللقطات المتتابعة لطائرة «الشبح» الأمريكية، وهى تحلق طليقة فى سماء العراق، دون أى اعتناء بالصواريخ المطاردة، أو بالأهداف المتحركة المراوغة. تلك الطلاقة، وذلك التحليق، الذى لم يهدأ طيلة أيام الحرب، كان يغطى تماماً على ما يجرى فى أرض الواقع، فى محاولة لحسم المعركة مبكراً عبر «الصورة»، التى جرفت أمامها، فى الوقت نفسه، سيل الكلمات المسموعة والمقروءة التى تصف الحرب، وتسهب جاهدة فى تبيان تفاصيل، لم يقطع أحد، إلى الآن، بدقتها. ومع هذا الغموض المخطط له، بفعل نقص المعلومات الواردة من ميدان القتال، أتيح للولايات المتحدة الأمريكية أن توظف الصورة بعناية فائقة فى كسب المعركة، إلى درجة حدت بالبعض إلى القول إن «سى إن إن»، التى ولدت على أكف حرب الخليج الثانية، هى المنتصر الأول، بل وصل الأمر بالأمين العام السابق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالى إلى وصف هذه المحطة التليفزيونية الإخبارية الشهيرة بأنها العضو السادس الذى امتلك حق الفيتو فى مجلس الأمن الدولى إبان تلك الحرب. ورحلة الوصول إلى توظيف الصور المتحركة فى الحرب تمثل ذروة لتجربة طويلة فى العلاقة بين الرسم والدم، بدأت بتلك الرسومات المحفورة على جدران المعابد فى مصر القديمة، للملوك وهم ذاهبون إلى ساحات القتال، تتقدمهم حراب مشرعة، وتتبعهم صفوف من الجند المدججين بالسلاح. ثم بدأت مرحلة الرسم بالكلمات، حين توصل البشر إلى حروف اللغة. فحفلت الملاحم اليونانية والقصائد الشعرية العربية بتصوير مكتوب للمعارك. وعبر هذا الإبداع الفنى عرفنا حرب البلبونيز فى اليونان القديمة، وكيف انتصر عسكر أسبرطة على جند أثينا، وصار لدينا خبر بحرب البسوس الطويلة بين قبائل عربية فى العصر الجاهلى. وعلى المنوال نفسه صور الناس فى بقاع الأرض قديماً الحروب التى خاضوها، إما عدواناً على الغير أو دفاعاً عن النفس والأرض والعرض، من خلال الكتابات النثرية والنظم الشعرى، التى لم تتجاوز حد الوصف أو الرسم بالكلمات، أى أنها فى خاتمة المطاف، كانت تصويراً مكتوباً، يمجد الأنصار، ويحط من شأن الأعداء. وخلال الحرب الأهلية الأمريكية كان الحفارون على الخشب والنحاس يرافقون المستوطنين من الهنود الحمر، فى اتجاههم صوب الغرب، هرباً من الإبادة، لينحتوا ما يرونه من معارك شرسة. وفى عام 1770 نحتوا صوراً للمذبحة التى جرت فى بوسطن. وفى القرن التاسع عشر، كان الرسامون يذهبون إلى ميادين القتال، باستخدام الدراجات الهوائية، ليقفوا على مشاهد واقعية، يعودون ويجسدونها على مهل فى لوحات تشهد على سير المعارك، وتؤرخ لها، على الأقل من الناحية الفنية. وكان بعضهم يرسل ما التقطه من صور معلقاً فى مناطيد تسبح فى الهواء، أو بشر يسبحون فى المياه الطليقة. وفى حرب القرم بين روسيا وبريطانيا، التى اندلعت عام 1848 واستمرت حتى 1870، دخلت الكاميرا لأول مرة إلى ميدان القتال، بعد أن سمح لها العسكريون بتسجيل المعارك. ومنذ ذلك التاريخ صارت «آلة التصوير» جزءاً لا يتجزأ من الحروب أينما وقعت. وللوهلة الأولى أظهرت لحظة الميلاد هذه أن المصورين الحربيين، فريقان، الأول يضم «سياح الحرب» الذين يتفرجون عليها من بعيد، ويسجلون بكاميراتهم ما راق لهم، أو ما أوعز إليهم، من مشاهد. أما الثانى فيضم أولئك الذين يقفون «ضد الحرب» لأنهم، من هول ما يرونه من فظائع، يرفضون قتل الإنسان لأخيه الإنسان، أياً كانت الأسباب أو المبررات. واستمر التصوير بالحرف سنوات، حتى إنه رافق اختراع الكاميرا فى مراحلها الأولى. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مارست قوات الحلفاء حرباً نفسية على قوات المحور فى الحرب العالمية الثانية، بإلقاء قوائم بالأطعمة التى يأكلها الجنود الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون، ومن يقاتل فى صفوفهم، على رؤوس الجند الألمان، خصوصاً فى البقاع المحاصرة والجيوب المعزولة، أو التى كانت تعانى نقصاً فى الإمدادات الغذائية، وشملت هذه القوائم أسماء الأطعمة وصوراً لها، مما كان له وقع سلبى فى نفوس الألمان. وأرادت إذاعة «بى بى سى» أن تنقل إلينا، عبر الصوت المجسم، صوراً حية، من ميادين القتال، فاعتادت استضافة مراسليها المرافقين للصفوف الأمامية من فرقاء الحروب، ومسئولين من الطرفين المتقاتلين، ومحللين متابعين للحرب عن كثب، وأحياناً فقرات مسموعة من المعركة، فكادت بذلك تحول الكلمات التى تصيخ لها الآذان سمعاً إلى صور تقتحم العيون، وأن تجعل السمع حاسة كافية للوقوف على ما يجرى. (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى) نقلاً عن "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرسم بالدم 1  3 الرسم بالدم 1  3



GMT 01:22 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 01:11 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 01:07 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 23:18 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تنظيم العمل الصحفي للجنائز.. كيف؟

GMT 23:16 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 22:59 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نجيب محفوظ كاتب أطفال

GMT 22:57 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

أرجوحة الخديو

GMT 22:54 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

رفح وعلم التخصص وأسئلة النساء

GMT 01:52 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة
  مصر اليوم - منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 07:57 2021 الخميس ,02 أيلول / سبتمبر

سعر الدولار اليوم الخميس 2- 9-2021 في مصر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon