مصر اليوم
ولد إبراهيم منصور عام 1937. عائلته من البرجوازية المستورة. أبوه أنهى حياته موظفا كبيرا فى وزارة التعليم. قطع رحلة حياته من مدينة المنصورة إلى شبرا ومنها إلى المعادى. كل مرحلة هى علامة على خطوة فى طريق الصعود. والمكتبة كانت عامل اختلافه الحقيقى عن أقرانه. الاختلاف كان ملحوظا أكثر فى موقفه المحايد من ذوبان إبراهيم فى تنظيمات اليسار تحت الأرض.. وعندما اعتقل فى حملة 1959 لم يكن فى البيت غير خوف الأم وإعادة لحكاية الضابط الذى جاء يبحث عن المشاغب السياسى الهارب.. وأقنعته الأم أنه خارج المنزل.. بينما هو ينام تحت سرير شقيقته الصغرى.
من هذه الأيام اكتشفت العائلة أنه «خائن» لأحلام الطبقة الوسطى و«متمرد» بفوضوية على المؤسسات التقليدية فى التعليم والوظيفة والعائلة. ذهب إلى كلية الآداب بالصدفة. كان طابور كلية الحقوق طويلا. (تحت إلحاح ورغبة الأب عاد إلى الحقوق وتخرج عام 1958). لم يكن موظفا أبدا. عمل مراسلا صحفيا (السفير اللبنانية) وكاتبا بـ(الوطن الكويتية).. ومترجما فى صحف ومجلات.. اختار أن يعيش «على هواه» يقرأ ويستمتع بالموسيقى.. والسينما.. وجلسات الأصدقاء.. أحيانا يفكر فى مشاريع (أبواب خارج نمط الصحافة التقليدية فى مجلات أو سلسلة كتب).. هو أيضا مستشار ومرجعية وشريك فى أى عمل منفلت خارج القوالب المستهلكة.. يكلمك فى الصباح ليحرضك على اتخاذ موقف ضد فعل فاضح من السلطة السياسية أو الثقافية.. صوته واثق متحمس.. وفى الليل يكون الأول فى السهرات اللطيفة.. السياسة ليست بديلا عن الاستمتاع.. والمتعة ليست ضد أن تكون صاحب موقف. كان من السهل أن يصبح إبراهيم منصور من أصحاب الكهنوت فى الوسط الثقافى الذين يعرفون كل شىء ويضعون له عادة مقدسة: هكذا تشرب القهوة.. وهذه هى الكتب التى تقرؤها. وهذا هو الموقف الملائم. هكذا ينام المثقفون مع العشيقات المثقفات وهكذا يتزوجون من قريبات. عادات مقدسة من الكتابة والتفكير حتى الحب والبيرة. وفيها جميعا يتمتعون بممارسة ازدواجية مبهرة لا تزعجهم أبدا. بل ويعتبرونها: علامة على المثقف.. لكن إبراهيم كان يفلت ويخرج.. وتجده حيث تقوده بوصلة خاصة يكتشف فيها الموهبة.. ويسير فيها خارج الكهنوت. لا شىء سوى طاقة هائلة تنحاز لموقع الرافض للسلطة فى كل أشكالها.. والمنجذب للتمرد.. والكاره للألعاب الصغيرة.. هذا كان عالمه «المثالى». لديه قدرة على مطاردة المتع أينما كانت، لكنها مطاردة أرستقراطية وليس على طريقة حانوتية الأرياف. يتخذ موقعه فى قيادة الانقلابات الثقافية.. كتب قصة وحيدة (اسمها: اليوم 24 ساعة.. هناك قصة أخرى غير مشهورة) لكنه صار مبشرا وداعية لجيل الستينيات فى الأدب كما ظهر فى المجلة الشهيرة: «غاليرى 68».. لم يحتل موقعا حزبيا، لكنه ترجم أحد أهم الدراسات المنشورة عن اتفاقية كامب ديفيد، وجمع كل الوثائق التى لم تنشر فى مجلدين، صدر عن «كتاب الهلال» لكن لم يعاد نشرهما مرة أخرى.
فى أبريل 2002 أعلنت مجموعة من المثقفين: الإضراب عن الطعام والاعتصام حتى تقرر الحكومة طرد السفير الإسرائيلى.. وإغلاق السفارة التى تطل من الدور الرابع عشر على نيل القاهرة.
بدأ الإضراب فكرة مجنونة من إبراهيم منصور. والعجيب أنه أول من أصر على فكرة الإضراب عن الطعام واختيار هذه الطريقة فى التعبير عن الاحتجاج على الرغم من أنه الأكبر سنا.
العمر لم تغلبه الحماسة التى أصابت عدواها آخرين.. وهى طريقة ينفذ بها عادة أفكاره التى تقترب أحيانا من حدود الفورات الانفعالية.. يحكون عنه طرائف من هذا النوع، أشهرها طبعا ما حدث عشية توقيع كامب ديفيد عندما دخل على المثقفين الملتفين حول الطاولات فى مقهى ريش الشهير يطالبهم بالخروج فى مظاهرة احتجاج على تصرفات الرئيس.. وجمع تبرعات رمزية لشراء قماش اللافتات.. وكتب الشعارات فى المقهى نفسه.. وسرعان ما تسرب رجال المباحث إلى المكان وخرج الجميع من باب المقهى إلى سيارات الشرطة المنتظرة بالخارج.. هو أقرب إلى تصرفات الزعيم كما عرفته الستينيات.. لكنه يختلف عن الزعماء من هذا النوع بأنه أمْيل إلى الثقافة.. وأكثر لطفا.. ولا يعتنى كثيرا بالتوازنات والحسابات المعقدة لوجود الزعيم فى الساحة السياسية.. والأهم أنه بلا أتباع ولا جماهير.. فقط أصدقاء ومحبون تثيرهم حماسته.. وتغيظهم عصبيته إلى حد الغضب.
وها هم يسيرون فى جنازته يبحثون عنه ليحرك طاقة السخرية ويفلتوا بالجنازة من إيقاع الموتى العاديين!
نقلاً عن جريدة "التحرير"