توقيت القاهرة المحلي 11:05:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

على حساب صاحب المحل

  مصر اليوم -

على حساب صاحب المحل

أسامة غريب

  مسكين الشعب المصرى.. هو ليس منكوبًا فقط فى من يحكمونه، لكن حظه مع نخبته وقادة الرأى لديه لا يقل سوءًا، وأشعر أن الجميع يستغفلونه ويرتزقون من المتاجرة بعذابه. منذ عدة سنوات كنت فى نيويورك عندما هاتفنى صديق عزيز وأخبرنى بأنه قادم غدًا إلى أمريكا للمشاركة فى احتفال بتسلم مصر قطعة أثرية تم استردادها إيذانًا بعودتها للوطن، وأن وفدًا مصريًّا كبيرًا يضم كُتابًا وصحفيين ومشتغلين بالفكر والثقافة وبالطبع رجال الآثار، سيحضر إلى مدينة أطلانطا، حيث الحدث الكبير! ورغم أنى لم أفهم مغزى المناسبة ولا معناها ولا سبب وجود الأسماء التى ذكرها لى فى حدث كهذا، فإن فرحتى بالمكالمة ورغبتى فى لقاء هذا الصديق، جعلتنى أقرر أن أطير إليه وألقاه هناك، خصوصًا أن مجموعة من الأصدقاء والمعارف كانوا ضمن المجموعة. توجّهت من المطار مباشرة إلى فندق الريتز، كما أخبرنى صديقى، وأدهشنى أن تكون الإقامة بهذا الفندق الباذخ المعروف بمستواه الفاخر وأسعاره المرتفعة. وهناك التقيت بجمع كبير من أهل الفكر والصحافة والإعلام وممثلين للصحف والمجلات والإذاعة والتليفزيون. وجدت أيضًا عددًا من أركان السفارة والقنصلية ومسؤولى المكاتب الإعلامية والثقافية والتجارية لمصر. أفضيت إلى صديقى بدهشتى من أن ترسل مصر الفقيرة البائسة على نفقتها كل هذا الجيش الجرار فى مناسبة هى فى أحسن الأحوال عادية، وكان يكفى فيها مسؤول من هيئة الآثار، فأخبرنى بأن مصر الدولة لا علاقة لها بهذا الحدث، وإنما يتولى الأمر كله أحد رجال الأعمال ممن لهم بزنس فى مصر ومثله فى أمريكا، وأنه قد دعا كل هذا الجمع على نفقته ودفع لهم تذاكر الطائرة والإقامة الكاملة، علاوة على مصروف الجيب. قلت له إن هذا أسوأ بكثير.. وأعتقد أن إقامة الصحفيين ورجال الإعلام على نفقة مؤسساتهم هى أكرم وأدعى لاحتفاظ المرء بحياده وكبريائه فى أدائه المهنى. أما والحال هكذا، فقد تحوّل كل أصحاب الأسماء الكبيرة من قادة الرأى إلى مندوبى إعلانات وموظفى علاقات عامة يعملون فى خدمة رجل الأعمال هذا. طلب منى صديقى أن أهوّن على نفسى، لأن الأمر لا يستحق هذه الحدة، فرؤساء المؤسسات الصحفية يقومون منذ سنوات بالحفر العميق وقد «لهطوا» كل المهلبية وتركوا الصحفيين يتدبرون أمرهم بمعرفتهم.. مَن يستطيع أن يجلب إعلانات فليجلب، ومَن يستطيع أن يصادق تايكونًا ويتخذه راعيًا رسميًّا فليصادق، والحياة فى النهاية لا بد أن تجد مخرجًا! وتمنى صديقى أن يقوم كل رجال الأعمال باصطحاب الإعلاميين فى رحلات خارجية، حيث الأكل والشرب والأُنس والفرفشة! ثلاثة أيام كاملة وجدت فيها مع كُتّاب مصر وصحفييها وقادة الرأى بها، شهدتهم يجلسون فى المطعم يأكلون كمن خرج للتو من مجاعة جنوب الصحراء. وأما عن السهر فقد أرغموا البار على أن يظل مفتوحًا حتى الفجر، والفاتورة مفتوحة وما عليك سوى أن توقّع وتكتب رقم الغرفة، وكله على حساب الممول الكريم. ولا أنكر أن الأصدقاء قد تلطفوا وعرضوا علىّ أن يتحدثوا إلى «صاحب الليلة»، فيضمنى إلى الفاتورة، حيث لاحظوا أننى الوحيد بين النزلاء الذى يدفع لنفسه ويقيم على نفقته الخاصة. شكرتهم على الأريحية والذوق ورفضت العرض الطيب، وأعترف أننى لم أندم أبدًا على قرارى هذا، خصوصًا عندما مرّ من أمامنا رجل الأعمال صاحب الأيادى البيضاء، وكنا نجلس فى ردهة الفندق، ووجدت الرجال الكبار والنساء الفضليات يقفون انتباهًا، وابتسامات واسعة تملأ وجوههم لتحية الرجل، وقد حيّاهم فى لطف وركب سيارته من أمام الفندق. وأكدت لى هذه اللحظة الفارقة معنى لم أشك فيه لحظة.. أكدت لى أنك تكون حُرًّا بقدر استغنائك، إذ وجدت نفسى الشخص الوحيد الذى ظل جالسًا بمكانه ولم يقف فى أثناء مرور المحسن الكريم. وأنا لا أحكى هذا من باب التفاخر، لكن لأنى شعرت وقتها أن مصر ليست بخير، وأن الكثير من كُتّابها وحمَلة مشاعل التنوير بها ليسوا كما يظنّهم الناس الطيبون. ولا أستطيع أن ألوم رجل الأعمال الشاطر على إدارته الناجحة لأعماله وقدرته على استقطاب رجال الفكر والإعلام، خصوصًا أن كل النفقات التى دفعها والتى بلغت ملايين الدولارات كلها مخصومة من الضرائب فى أمريكا، أى أنه لم يتكلّف شيئًا! أقول إننى لا ألومه على شطارته، لكنى ألعن الفقر وألعن الانسحاق الإنسانى الذى يجرّد الإنسان من اعتداده بنفسه ويجعله أسير السيد المانح. وفى الوقت نفسه أرثى لحال المواطن المصرى العادى الذى أسمعه أحيانًا يتحدّث بفخر عن الكاتب الفلانى الشجاع أو الصحفى العلانى الجسور، وأضحك ملء فمى، ولسان حالى يقول للمواطن المسكين: لقد شاهدت بأم عينى بطلك الهُمام مصطحبًا زوجته، يقومان بالشوبنج ويستمتعان بالإقامة المجانية على حساب صاحب المحل فى رحلة أطلانطا، بينما صاحب المحل الحقيقى أى المواطن المصرى يغط فى نوم عميق دون أن يدرى أن كتّابه المحبوبين موزعون بين باحث عن كرسى على الطائرات الرئاسية يأخذه إلى حيث الأسمطة المليئة بالأوزى والبعرور، أو ملتمس العزاء فى صحبة رجل أعمال كريم، أو.. يلتقط الحب فى العشة التى أسسها الوزير الفنان!   نقلًا عن جريدة "التحرير"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

على حساب صاحب المحل على حساب صاحب المحل



GMT 01:22 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 01:11 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 01:07 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 23:18 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تنظيم العمل الصحفي للجنائز.. كيف؟

GMT 23:16 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 22:59 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نجيب محفوظ كاتب أطفال

GMT 22:57 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

أرجوحة الخديو

GMT 22:54 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

رفح وعلم التخصص وأسئلة النساء

GMT 01:52 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة
  مصر اليوم - منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 07:57 2021 الخميس ,02 أيلول / سبتمبر

سعر الدولار اليوم الخميس 2- 9-2021 في مصر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon