المثير فى ترنح «سلطان» إسطنبول، أنه بعدما كان الأمل، أصبحت الأزمة، وبعد ١٣ عاما لم يعد أمامه إلا الدخول فى حسابات معقدة ومركّبة وفق توازنات السياسة.
إنها ضربة لكل مَن تصوَّر نفسه فوق السياسة/ أو قادرا على التعالى عليها وفق قانون «أنا المنقذ/البطل».
وكما كتبت بعد ساعات من النتيجة، فإن النتيجة تعنى خسارة «جنون العظمة» أو البارانويا جولة كبيرة.
هذا هو الدرس الكبير، الذى يجعل السياسة تنتصر فى مواجهة تغييبها بمنطق يتصور فيه أحد الأطراف أن المصلحة معه/ أو الحق التاريخى معه/ أو إنقاذ البلاد فى الاصطفاف خلفه، لم يعد للمتوهمين فى ذواتهم مكان كبير، ربما يصعدون كأقراص فوارة، موضات سياسية، لكنهم سرعان ما يسقطون أو تخبو أحلامهم بأسرع مما يتوقع أشد خصومهم عداوة.
أردوغان حرَّكته البارانويا من صورته كرجل طيب/ يقود بلاد حكمتها وحوش عسكرية، إلى وحش كامن يبتلع الدولة كلها ويحوّلها إلى حديقة الحزب وامتداداته الإقليمية والدولية.
تبخر حلم أردوغان بإعادة تأسيس الدولة لتتخلص من إرث أتاتورك، بما يوحى بأردوغانية أو سلطنة جمهورية تَرعَى ألوية الهوياتية فى المنطقة، وتفرض بالديمقراطية استبدادا شرقيا/ غربيا، إسلاميا/ حديثا، فى موديل تتآكل فيه الديمقراطية لتصبح أداة اكتساح الأغلبية تحت رايات الهوياتية فى الداخل/ ومن الخارج فى إطار الدوران فى الفلك الرأسمالى اقتصاديا وعسكريا عبر الخدمة فى «الناتو».
هذه المهام ذات الملمح الرسولى كانت وراء طغيان الوهم على السياسة بعدما وصل أردوغان إلى قصر الرئاسة، وبدا حلم تحول تركيا إلى نظام رئاسى قريبا، هذا الحلم الذى يعوض خسارته كراع للتجربة الإخوانية فى العالم العربى.
التصويت سحب من أردوغان رصيده الذى كان سيسمح له بتأسيس إمبراطورية رئاسية. بمعنى أن أدوات الديمقراطية أوقفت غشم سلطويته، أو حاصرتها فى مواقعها القديمة لتبقى سلطوية كلاسيكية، لا استبداد معاصرا يدمج الديمقراطية فى أحلام دولة الهوية المسيطرة.
وفى الوقت الذى أبقت فيه الانتخابات على السلطويات المنافسة (الكماليين والقوميين) فى حدودها التقليدية فتحت الأبواب أمام صعود الأقليات مع وصول حزب «الشعوب» الديمقراطى إلى نسبة الـ١٣٪ بعدما انتقل من حزب «الجالية» الكردية/ إلى حزب ينفتح خارج الهوية على طبقات اجتماعية بعيدة عن التأثير.
وخسارة البارانويا وانتصار الأقليات مؤشر ليس هيّنًا على فشل موديل الدولة القائمة على الفرد، فأردوغان حوّل حزبه إلى مخزن أحلامه منتقلا من خانة السياسة (رئيس حزب يقوم على الطبقة الوسطى القادمة من الريف) إلى الوصاية (المبشّر والداعية إلى دولة خلاص أيديولوجى، دينية من قلب التركيبة العلمانية)، وترسخت عبر 13 عاما صورة أردوغان الكامنة خلف نجاح سياسى صنعته روشتات اقتصاد مغامر/ فوّار يقدم انتعاشات سريعة لكنه لا يؤسس بنية اقتصادية.
هكذا خسر أردوغان فائض جنون عظمته.
لم يعد أردوغان أملا وإنما أزمة، فسدت خلطاته السرية وافتقر إلى مهارات اللاعب السياسى/ الساحر المنتظر. وأصبح أميرًا أيديولوجيًّا يدافع عن تنظيم/ أممية، وبدا فى ميله الحربى ليس رجب الطيب القادم من حزب إسلامى لكنه جنرال أكثر من الجنرالات.
أحلام أو أوهام أمراء أيديولوجيا الخلاص، كانت محور التصويت.
ملايين قرروا منع أردوغان من شعوره بجنون العظمة، والأهم أنهم قفزوا فوق استقطابات (إيمان/ كفر) المعادل لـ(إسلام/ علمانية)، وعبّرت عن تحول فى المزاج العام كفيل بإنهاء أحلام الأمير الأيديولوجى.
هذا التحول أكثر تعقيدا (من الاستقطابات التى كان تفوز فيها ديماجوجية أردوغان) ومرتبط بتركيبات المجتمع وموقع الفرد العادى فى حروب الهويات.
تفكيك السطوة الأردوغانية اعتمد على تفتيت الكتل الضخمة (من ريف الأناضول غالبا)، وصعود التصويت الفردى، أو كما يبدو أنه اتجاه جديد، لتيارات تمثل ديمقراطية (ذات طابع مجتمعى) ليس منظما فيها إلا حزب «الشعوب» الديمقراطى الذى يمثل صعوده إشارات إلى موديل جديد من سياسيين أذكياء (متمثلة فى صلاح الدين دمرطاش)، ينتمون إلى شبكاتهم الاجتماعية لكن فى ظل تعدد المجتمع لا محاصصة طائفية، وليس باعتباره أمير هوية مضطهدة، بل بتمثيله لقطاعات تعاديها السلطويات الإسلامية والعسكرية على السواء (المرأة والمثليين..) إلى جانب الفقراء وهناك إشارة إلى ما يمكن أن تكسبه الأقلية الكردية من قدرات على الخروج من مكامنها الضيقة، أو مظلوميتها الممتدة، إلى أفق جديد مع تفتت الاستبداد القديم بمحموله المعادى للأقليات أو للمنتهَكة حقوقهم، وهنا سيصبح الأكراد (بحروبهم ضد «داعش» وبزحفهم فى صراع الصناديق) طرفا فى تشكيل مستقبل المنطقة.
وهذا سيغير كثيرا لا كما كان يتوهم السلطان الذى يلعق مرارة خسارته الآن فى قصره الجديد.