توقيت القاهرة المحلي 04:48:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حين ننسى مبارك الذى...

  مصر اليوم -

حين ننسى مبارك الذى

وائل عبد الفتاح

لم يعد أحد يتذكر موعد المحاكمة. ولا أين هو؟ مبارك الذى حكم مصر 30 سنة كاملة، طار فيها بالبلد كله تحت الرادار، وفكك قوته الناعمة بما يملكه من مهارات الموظف. الآن هو خبر من الدرجة الثالثة. لم يعد مغريا وهو على قيد الحياة أن تلعنه أو تراه معذبا، كما أن مصيره لم يعد علامة هامة فى إطار خروجنا من الحفرة التى عشنا فيها طوال سنوات مبارك، وندفع ثمنها كاملة الآن بعد الخروج من الحفرة، وتعرفنا على ما لم يكن من الممكن رؤيته أو معرفته. مبارك سيدخل حديقة الديكتاتوريات التذكارية، من بوابة قصيرة جدا. لكنها بوابة مميزة للغاية. ديكتاتور لم يكن له ميزة سوى قدرته على «التناحة»، وهى أسلوب لا شتيمة: كيف تواجه كل شىء بدم بارد، كيف تحكم شعبا عبر شحنات من اليأس. قلت فى أثناء حكمه إنه اخترع شرعية جديدة هى شرعية الملل، وها هو يثبت وهو فى زنزانته الطبية أنها لم تكن فقط شرعية حكم ولكنها عقيدة حياة. لم يحارب مبارك من أجل عرشه، لكنه التصق به، كما يلتصق الآن بسرير يتجول به بين المستشفى، والسجن والمحاكمة، وأولاده عندما يظهرون أمام الشاشات يستعرضون جبروتا هزيلا لا أحد يعرف من أين يأتى ولا على ماذا يعتمد، ولا أى فكرة كبيرة خلفه، إنه جبروت فارغ لا يكشف سوى عن شعور عكسى بأنهم أقزام. أقزام تمنحهم السلطة مكانتهم، ماذا كان سيفعل مبارك وأولاده وعائلته كلها إن لم تكن الصدفة قفزت به إلى الرئاسة؟ لم يفكر أيتام مبارك فى شكل زعيمهم وهو يدخل حديقة الديكتاتوريات، إنه علامة على انقراض نوع الحكام الذين يتصورون نفسهم آلهة لمجرد جلوسهم على كرسى الحكم. والأيتام هنا أيتام فكرة لا شخص، ولا يقتصرون على الشبيحة الذين يقفون أمام الكاميرات كأنهم فقرة إعلانية على هامش محاكمة مبارك، وليسوا فقط البلطجية الذين يطاردون أسر الشهداء لإثارة رعبهم. إنهم شرائح كاملة ستفقد مركز حياتها بذهاب مبارك إلى حديقة الديكتاتورية المنقرضة. مبارك يشعر بالأسى وأيتامه بالحقد المغلى، لأنهم مثل زعيمهم خيالهم محدود وروحهم أضيق من فتحة أذن طفل صغير. مبارك يرى العالم من ثقب باب كابينة فى سفينة غارقة، أحلامه لا تتعدى الطفو على الماء، ونظامه معدوم الكفاءة إلا فى ما يتعلق بالسيطرة والترويض. مبارك أنقذ مصر من وجهة نظره، وتركها صحراء وسطها منتجعات، وفى قلبها برج عال، تحميه أقزام بشهواتهم وقدرتهم على نشر الخوف والرعب، ليتصور الشعب أنهم آلهة، يحركون جيشا من الأرواح الشريرة. مبارك حكم بخياله المريض، ليرى الشعب عبيدا لا يعترفون بالجميل.. ولا بخدماته. الثورة انفجرت فى قلب صحراء بشكل ما، وكشفت عمق الكارثة. نظام مبارك أقزام وليسوا آلهة، ولا سياسة فى مصر سوى جسارة كبرت إلى أن أصبحت «ثورة حياة أو موت». غياب مبارك خلف ستار الغرفة المغلقة، نتج عنه فراغ كبير عند عباد الديكتاتور وضحاياه، العبيد يبحثون عن ديكتاتور جديد، ويمنحون الجيش صك أُلوهية لا تُناقش، وفى المقابل الثوريون اكتشفوا السياسة فى الميدان، ومعه تَوْق وجودى إلى ثورة لا تنتهى، ويشحنون «حالة الميدان» لتدخل إلى حالة دائمة، خوفا من الرجوع إلى حالة «ما قبل الثورة». فوضوية ثورية تلهث وراء سؤال يتكرر: ما العمل؟ لا تقبل الفوضوية بنصف إجابة، ولا تبنى على نصف الخطوة، إنها حالة مطلقة، لا تهادن مع الظروف ولا صراع القوى، وتمنح بطيفها الواسع، نوعا من البراءة، والعفوية، تتصادم أحيانا مع العقل أو الخبرة السياسية. الصدام يصنع عملية فرز جديدة على السياسة فى مصر، آلاف يدخلون المسرح بفوضوية تحطيم الآلهة، بينما العقلاء والحكماء يعتمدون خطابا براجماتيا، يحافظ على إله لاستخدامه فى التخلص من بقية الآلهة. الجيش دخل المعركة إلى آخرها، كان الإله الذى راهنت عليه براجماتية الحكماء، وهرب منه نقاء الفوضوية، وكسرته مع بقية الآلهة. هكذا نحن فى هذه اللحظة: الجيش أزاح الآلهة وقادهم إلى المزرعة، لكنه لم يعد إلى الميدان بأسطورته الأولى، إنها لحظة تشكل، تشترك فيها كل العناصر: عبيد الديكتاتور، بعاطفيتهم المترهلة، والفوضويون بشحناتهم المطلقة، والحكماء بارتباكهم فى لحظات الحسم.. تشترك كل هذه العناصر فى إعادة تخصيب أرض السياسة. عملية ليست سهلة، ولا حتى بعد اصطياد الأقزام الذين تحولوا إلى آلهة. نقلاً عن "التحرير"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين ننسى مبارك الذى حين ننسى مبارك الذى



GMT 02:01 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

سنة ثالثة شعر

GMT 01:57 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

اللاجئون في مصر... تراث تاريخي وتذمر شعبي

GMT 01:54 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

أزرار التحكم... والسيطرة!

GMT 01:52 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

أميركا النازعين وأميركا النازحين

GMT 01:48 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

عن سجننا بين إدوارد سعيد ونتنياهو

GMT 01:44 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

فيلبي وحفيدته سارة... وإثارة الشجون

GMT 01:36 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

«رؤية 2030»: قارب النجاة في عالم مضطرب

GMT 00:10 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

قواعد اللعبة تتغير من حولنا!

GMT 00:49 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

محمد ثروت ينضم لـ«عصابة المكس» بطولة أحمد فهمي
  مصر اليوم - محمد ثروت ينضم لـ«عصابة المكس» بطولة أحمد فهمي

GMT 09:48 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

أستون فيلا ضيفًا على فولهام في الدوري الإنجليزي

GMT 23:11 2020 الثلاثاء ,08 أيلول / سبتمبر

البورصة العراقية تغلق التعاملات على تراجع

GMT 10:11 2020 الإثنين ,24 آب / أغسطس

عبد السلام بنجلون يتعافى من كورونا

GMT 20:36 2020 الأربعاء ,22 تموز / يوليو

حصيلة وفيات كورونا في المكسيك تتخطّى 40 ألفاً
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon